انشغل علماء الإسلام منذ وقت مبكر بمسألة الطفولة وتركز اهتمامهم حول الأحكام الشرعية المتعلقة بالطفولة، وكيفية تنشئة الطفل خلقيا وما يحتاج إليه ليصبح إنسانا فاضلا، وكيفية إعداده عقليا من خلال تلقينه مبادئ العلوم الأساسية والأساسية، وقد نال البعد الشرعي والتعليمي عناية الدارسين إلا أن البعد الأخلاقي لم ينل ذات العناية ربما لأنه لم يرد مستقلا ويحتاج إلى جهد لاستخراجه من بطون الكتب، وعليه أسعى هنا إلى الإشارة الموجزة إلى بعض المصنفات التي تطرقت إلى مسألة تهذيب الصغار في الإسلام ثم أتناول التوجيهات التربوية والأخلاقية التي طرحتها.
التصنيف التراثي حول التهذيب والتأديب
ثمة مصنفات تناولت موضوع تهذيب الصغار وبيان الفضائل الأخلاقية والسلوكيات الواجب تلقينها إياهم، ويمكن تقسيمها تقسيمات عدة إما بحسب ورودها، فبعضها جاء في مصنف مستقل، مثل رسالة (أيها الولد) للغزالي، وبعضها الآخر ورد ضمن مصنف آخر مثل رسالة ( سياسة الصبيان وتدبيرهم) لابن الجزار القيرواني، أو تقسيمها حسب المُخاطب، فبعضها موجه إلى الناشئة من مثل رسالة لفتة الكبد إلى نصيحة الولد لابن الجوزي، وبعضها موجه إلى الوالدين والمربين عموما من قبيل (منظومة رياضة الصبيان) لشمس الدين الرملي.
وعلى أي حال يمكن الإشارة إلى بعض الكتابات التي تناولت كيفية التقويم السلوكي للطفل وأشارت إلى الفضائل الخلقية ووسائل التهذيب الواجب الاعتناء بها ومنها:
إحياء علوم الدين
وقد تطرق إلى مسألة تربية الصغار في فصل صغير الحجم عظيم القدر بعنوان “رياضة الصبيان في أول نشوهم [نشأتهم] ووجه تأديبهم، وقد نقله عنه بعضهم نصا مثل القاضي أبو بكر بن العربي في (مراقي الزلفى)، وابن الحاج في (المدخل)، وللإمام الغزالي رسالة أخرى في التربية وهي (أيها الولد) وتعنى بالتكوين العقدي والروحي إلى جانب عنايتها بالسلوكيات.
تحفة المودود بأحكام المولود
وهو كتاب فقهي للإمام ابن القيم يتناول أحكام المولود منذ ولادته حتى بلوغه، ويضم فصلان يتناولان مسائل التربية والتهذيب وهما على التوالي: وجوب تأديب الأولاد وتعليمهم والعدل بينهم، وفصول نافعة في تربية الأطفال، وهما يتضمنان رؤية الإمام ابن القيم لكيفية تعامل الآباء مع الأبناء، والخصال الخلقية والسلوكيات الواجب تنشئة الأبناء عليها.
منظومة رياضة الصبيان
نظمها الإمام شمس الدين الرملي في (109) بيتا، وتضم نصائح للوالدين تتعلق بكيفية تهذيب الطفل وتقويم سلوكه منذ بدء التعقل حتى البلوغ، وفيها مسائل مفيدة.
سياسة الصبيان وتدبيرهم
وضعه الطبيب القيرواني ابن الجزار، وهو من أوائل العربية في طب الأطفال وأكثرها ذيوعا، ويتضمن فصلا بعنوان “في تربية الصبيان” تطرق إلى طبيعة الطفل الفطرية ومن يقبل التأديب من الصغار ومن لا يقبل وسبل التعامل مع الأخير.
سبل التهذيب والتأديب
يعتقد الغزالي أن تربية الصغار أو ما يطلق عليه (رياضة الصبيان) من “أهم الأمور وأوكدها لأن الطفل يشبه الجوهرة الخالية من كل نقش فإن عود الخير نشأ عليه ونال سعادة الدارين، وإن عود الشر شقي وهلك[1]“، وتبعة تربية الصغير وتهذيبه تقع أول ما تقع على أبويه، فإن أهملا تربيته وصار شقيا وقع وزره عليهما وتحملا مسئولية ذلك، ولذلك يقول ابن القيم “وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد لرأيت عامته من قبل الآباء”[2]، وبصفة عامة يدور حديث القوم حول جملة من التوجيهات التي ينبغي غرسها في الصغار وتعويدهم عليها من قبيل:
التوجيهات المتعلقة بالعادات الحياتية
التوجيهات المتعلقة بالعادات الحياتية من مأكل ومشرب وقيام وجلوس وما إلى ذلك، وقد انشغل العلماء جميعا بمسألة طعام الصغير لذي يغلب عليه عادة شره الطعام، وافترضوا وجوب تأديبه فيه كأن يُسمي قبل البدء، وألا يبادر إلى المائدة قبل أي أحد، ولا يوالي بين اللقيمات بل يمضغ الطعام جيدا، ولا يلطخ يديه ولا ثوبه، وحبذوا تعويده على القليل من الطعام، فمن “سوء التدبير للأطفال أن يُمكنوا من الامتلاء من الطعام وكثرة الأكل والشرب، ومن أنفع التدبير لهم أن يعطوا دون شبعهم، ليجود هضمهم”[3] وحبذوا كذلك تعويده على الطعام اليابس الخشن لئلا يألف الأطفال النعم والرفاهية.
كما دعوا إلى الاحتراز في ارتداء الملابس الفاخرة ومنع الذكور من ارتداء الحرير والملابس الملونة والمزركشة، وتجنيبهم التنعم بالفراش اللين فكلما كان الفراش خشنا كان أصلب للأعضاء فينشأ البدن قويا قادرا على القيام بسائر الأعمال[4].
ودعوا كذلك إلى الاعتناء بجلوسهم وحديثهم إذ ينبغي تعويد الصغير “أن لا يبصق في مجلسه، ولا يمتخط ولا يتثاءب بحضرة غيره، ولا يستدبر غيره، ولا يضع رجلا على رجل، ولا يضع كفه تحت ذقنه ولا يعمد رأسه بساعده فإن ذلك دليل الكسل، ويعلم كيفية الجلوس، ويمنع كثرة الكلام ويُبين له أن ذلك يدل على الوقاحة..ويمنع أن يبتديء بالكلام ويعود أن لا يتكلم إلا جوابا وبقدر السؤال، وأن يحسن الاستماع مهما تكلم غيره ممن هو أكبر منه سنا”.[5]
التوجيهات المتعلقة بالتهذيب الخلقي
وللعلماء كلام طويل ومتشعب وحجر الزاوية فيه اعتزال قرناء السوء لأن “أصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء،”، فإن تم ذلك ينبغي لوليه أن يعوده تجنب الكذب والخيانة “لأنه متى سهل عليه سبيل الكذب والخيانة أفسد عليه سعادة الدنيا وحرمه كل خير” وعلى تجنب السرقة والفحش في القول، ويحذر كل الحذر من تمكينه من تناول ما يزيل عقله من مسكر وغيره ومتى سهل عليه ذلك استسهل الدياثة، ويمنع كذلك من ارتياد مجالس اللهو والغناء لأنه “إذ علق بسمعه عسر عليه مفارقته في الكبر وعز على وليه استنقاذه منه، فتغيير العوائد من أصعب الأمور يحتاج صاحبه إلى استجداد طبيعة ثانية والخروج عن حكم الطبيعة عسر جدا”[6].
وثمة رذائل خلقية أخرى حذر العلماء منها إذ يلتفت الزرنوجي إلى ملمح مميز من ملامح الصغار وهو الميل إلى المشاحنة والبغضاء والخصام لذا يحذر الصغير قائلا “عليك أن تشتغل بمصالح نفسك لا بقهر عدوك فإذا قمت بمصالح نفسك تضمن ذلك قهر عدوك، وإياك والمعاداة فإنها تفضحك وتضيع أوقاتك، وعليك بالتحمل لا سيما من السفهاء… وإياك أن تظن شرا بالمؤمنين فإنه منشأ العداوة”[7].
التوجيهات المتعلقة بالتعلم
وهي متضمنة في كتابات التربويين مثل سحنون والقابسي والزرنوجي وموجودة لدى الفقهاء أيضا، إذ يتحدث الإمام ابن القيم إلى الآباء عن ضرورة مراعاة “حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها.. فإذا رآه حسن الفهم صحيح الإدراك، جيد الحفظ واعيا، فهذه من علامات قبوله وتهيئه للعلم .. وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه، وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الركوب والرمي واللعب بالرمح، وأنه لا نفاذ له في العلم ولم يخلق له مكنه من أسباب الفروسية، فإنه أنفع له وللمسلمين، وإن رآه بخلاف ذلك وأنه لم يخلق لذلك ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع مستعدا لها قابلا لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس فليمكنه منها”[8]، وهذا كله بعد تعليمه ما يحتاج إليه في دينه.
وإذا ما سلك الصغير سبيل التعلم والتحق بالمكتب فالواجب عليه أن يلتزم الأدب مع معلمه ويوقره، ولا يجلس مكانه، ولا يبتدئ الكلام عنده ولا يكثر، ويمتثل أمره من غير معصية لله[9].
ويلتزم الأدب كذلك مع أقرانه إذ “يمنع من أن يفتخر على أقرانه بشيء مما يملكه والداه أو بشيء من مطعمه وملابسه أو لوحه ودواته بل يعود التواضع والإكرام لكل من عاشره، والتلطف في الكلام معهم، ويمنع من أن يأخذ من الصبيان شيئا بدا له حشمة إن كان من أولاد المحتشمين بل يعلم أن الرفعة في الإعطاء لا في الأخذ”[10].
ويلتفت الغزالي إلى مسألة ندر من التفت إليها وهي احتياج الصغير إلى اللعب والترويح لذا ينصح الأولياء قائلا: “ينبغي أن يؤذن له -الصبي- بعد الانصراف من الكتاب أن يلعب لعبا جميلا يستريح إليه من تعب المكتب بحيث لا يتعب في اللعب، فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه إلى التعلم دائما يميت قلبه ويبطل ذكاءه، وينغص عليه العيش حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأسا”.
على حين يفترض ابن خلدون أن مجاوزة الحد في إجبار الصغير على الاستذكار والتعلم له آثار سلبية على الطفل إذ يذهب بنشاط النفس ويحملها على حب الكسل والكذب والخبث والتظاهر بغير ما في الضمير خشية انبساط الأيدي عليه بالقهر، وربما تأصلت فيه هذه الخصال وصارت عادة له في كبره[11] .
توجيهات متعلقة بالتقويم السلوكي
لا يسلم الصغير من ارتكاب زلات تستوجب العقاب، وهناك توجيهات لا تحصى تتعلق بسبل تقويم سلوكيات الصغير سواء في المنزل أو في المكتب، والقاعدة الأساسية فيها أنه إذا أظهر الصبي خلقا جميلا وفعلا محمودا فينبغي إكرامه ومجازاته بما يفرح به ويمدح أمام الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة فينبغي التغافل عنه وعدم إفشائه ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه؛ وذلك خوفا من أن يتجاسر عليه لاحقا، فإذا عاد إليه يعاتب سرا ويحذر من إفشاء جرمه وكشفه أمام الناس، ولا ينبغي معاتبته على الدوام لأن هذا يهون عليه ركوب القبائح ويسقط وقع الكلام من قلبه كما يقول الغزالي، بل يجب أن يكون الأب حافظا لهيبة الكلام معه فلا يوبخه إلا أحيانا والأم تخوفه بالأب[12].
فإن لم يجد الكلام نفعا وجب معاقبته بما دون العقاب البدني من حرمان من طعام وراحة وتأخير في الخروج من المكتب وما إلى ذلك، فإن لم يفلح جاز لوليه أو معلمه ضربه بالعصى بحيث لا يجاوز العشر ضربات، ويتحرز في ذلك فلا يضرب وهو غضبان، ويبتعد عن الوجه والمواضع الحساسة، ولا يجوز لهما الاستبداد في الضرب كما يعتقد ابن خلدون “حرصا على صون النفس من مذلة التأديب، وعلما بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته”[13].
وبالجملة، نالت مسألة تهذيب وتأديب الصغار عناية المصنفين التراثيين على اختلافهم، واتسمت اطروحاتهم بالإحاطة والشمول إذ جمعت بين الأبعاد الشرعية والأخلاقية والتربوية.