انتشر في الآونة الأخيرة بعض الدعاوى التي ترى أن الرجل إذا طلق زوجته مشافهة دون توثيق عن المأذون أو المحكمة؛ فإن طلاقه غير واقع، وثار لغط في الإعلام حول القضية من غير المتخصصين وبعض المتخصصين، مما أثار بلبلة في الموضوع، فما حكم توثيق الطلاق الشفهي في ميزان الفقه الإسلامي؟
والذي عليه القول: إذا وقع الطلاق بشروطه؛ فقد وقع صحيحا، ولا يمنع وقوع الطلاق أن يقع شفهيا، أو لم يوثق، وبهذا قال جماهير الفقهاء، بل لا يعرف لهذا الرأي مخالف من الفقهاء المعتبرين، ولم ينقل عن أحد من الفقهاء قديما القول بعدم وقوع الطلاق من الزوج إن تلفظ به دون توثيقه، والقول بعدم وقوع الطلاق إلا بالتوثيق قول حادث، وإنما الخلاف بين الفقهاء في وجوب التوثيق، وليس في وقوعه.
والأدلة على ذلك ما يلي:
أولا– أن الحكم بوقوع الطلاق جاء مطلقا دون تخصيص، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] .
ثانيا– أن التوثيق ليس من أركان الطلاق ولا شروطه، ولا غيابه من موانع الطلاق.
ثالثا– أن الفقهاء جعلوا أن الأصل في صيغة الطلاق الكلام، وتحل الكتابة أو الإشارة محل الكلام على الخلاف الوارد في ذلك الإشارة، لكن اتفقوا على أن الكلام بالطلاق هو الأصل، والقول: إن التوثيق شرط في صحة وقوع الطلاق؛ يجعل الكتابة هي الأصل وليس النطق بالطلاق، وهو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء في اعتبار النطق هو الأصل في الطلاق.
رابعا– ذكر الفقهاء عدة شروط لصحة وقوع الطلاق، ليس منها توثيقه، ومن تلك الشروط أن يقع من زوج بالغ عاقل قاصد للطلاق، غير مكره، لافظا للطلاق بلفظه الصريح، فإن كان لفظ كناية؛ وجب تعيين النية فيه، وغيرها مما ذكره الفقهاء في كتبهم. [راجع: حاشية ابن عابدين 3 / 230 ، وحاشية الدسوقي 2 / 365 ، ومغني المحتاج 3 / 279 ، والمغني 7 / 312 ـ 315]
سادسا– أن اشتراط التوثيق لإيقاع الطلاق زيادة شرط على ما جاء في التشريع، وقد الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ـ
وورد في الصحيحين وغيرهما قوله ﷺ “ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن شرطه مئة مرة، شرط الله أحق وأوثق”».
وقد حكم النبي ﷺ في وقائع كثيرة بوقوع الطلاق بعد التلفظ به دون إشهاد، ولم يحفظ عنه – ﷺ- أنه طلب الإشهاد عليه، أو أوقف الطلاق على الإشهاد، بل كان يجريه على ما وقع من الزوج.
سابعا– أن الإشهاد على الطلاق ليس واجبا عند جمهور الفقهاء، وإن قال بوجوبه بعضهم، على الاختلاف بينهم في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] هل هو للوجوب أو الاستحباب؟
على أن القول بوجوب الإشهاد مفاده صحة وقوع الطلاق مع الإثم لعدم الإشهاد عند من يرى وجوبه.
قال الشوكاني: «وقد عرفت الإجماع على عدم وجوب الإشهاد على الطلاق، والقائلون بعدم الوجوب يقولون بالاستحباب». «نيل الأوطار» (6/ 300)
ثامنا– أن الادعاء بعدم وقوع الطلاق الشفهي وإيقافه على التوثيق لتغير الظروف والأحوال غير معتبر شرعا، لأنه كما قال الشاطبي: إن اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ليس في الحقيقة اختلافا في أصل الخطاب، لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي، وإنما المعنى أنه إذا اختلفت العوائد رجعت كل عادة إلى أصلها الشرعي، فالاختلاف ليس في خطاب الشرع وإنما في اختلاف العوائد والشواهد. (الموافقات، 2/491 بتصرف).
تاسعا– أن الإلزام بعدم وقوع الطلاق دون توثيق لا اعتبار له في الشريعة، ولو صدر من جهة أو سلطة أو مفت، لا فرق في ذلك بين من يمنع وقوعه، مع استيفاء شروطه وأركانه، وأن الطلاق الشفهي واقع شرعا ولو منعته السلطات أو القضاء في أي بلد كان، وأن على المسلمين عدم اعتبار القول بعدم وقوع الطلاق دون توثيق، وألا يلتفتوا إلى مثل هذا القول، وأن يقدموا حكم الله تعالى على ما أبانه الفقهاء على حكم ما سواه، امتثالا لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36] ، وأن يمتثلوا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]
ومع أن ما استقر في اجتهاد علماء الأمة من وقوع الطلاق الشفهي، وأن عدم توثيقه لا يقدح في صحته، إلا أننا نهيب بالمسلمين ممن يقع منهم الطلاق أن يشهدوا على الطلاق من يثقون بدينه، أو يوثقوه في المؤسسات الرسمية المعنية بتوثيق الطلاق في بلاد المسلمين؛ رفعا للنزاع، ودفعا للريبة والكذب، ومنعا للشقاق الحاصل بين الزوجين، وخروجا من الخلاف الوارد في وجوب الإشهاد على الطلاق.
سائلين الله تعالى أن يحفظ بيوت المسلمين، وأن يديم الحياة الزوجية والسعادة بين الأزواج والزوجات.