عرفت البيئة الشنقيطية (الموريتانية) ازدهارا علميا كبيرا خلال القرون الماضية، استطاعت فيها المحاظر ـ وهي المدارس العلمية عند الشناقطة ـ أن تستوعب علوما مختلفة وتوفر بيئة نوعية للدراسة، تخرج منها علماء أفذاذ موسوعيون في مختلف المجالات.
وكان للفقه ـ وبالأخص المالكي ـ نصيب وافر من الاهتمام في المحظرة الشنقيطية، فكثرت فيه التآليف والشروح والحواشي والأنظام، ومثلت “الشواهد الفقهية” ظاهرة بارزة في المنظومة التربوية في المحظرة.
ويعني “الشاهد الفقهي” بيتا أو أبياتا ـ رجزية في الغالب ـ تتضمن الحديث عن جزئية فقهية خاصة، وقد يكون “الشاهد” منتقى من نظم آخر لما تحمله أبياته من خلاصة أو ترجيح أو تفصيل يستدعي الاستشهاد به في المحل المناسب، لكن الأكثر فيه أن يكون مستقلا نظمه قائله لتقييد الإفادة المذكورة فيه حتى يسهل حفظها وضبطها على الطلاب والدارسين.
ومما تميزت به الشواهد والأنظام الفقهية المتداولة عند الشناقطة الحرصُ على توثيق المصدر ضمن الشاهد الفقهي المنظوم، وهي الظاهرة التي نتحدث عنها في هذا المقال.
أهمية التوثيق
ذكر ابن جماعة [ت 733هـ] عن سفيان الثوري [ت: 161هـ] أنّه قال: إنّ نسبة الفائدة إلى مفيدها من الصدق في العلم وشكره، وإن السكوت عن ذلك من الكذب في العلم وكفره. (مواهب الجليل، للحطاب، 01/04)
وذكر ابن عبد البر [ت 463هـ] أنه يقال إن من بركة العلم أن تضيف الشيء إلى قائله. (جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، 02/992)
وقد حرص الفقهاء الشناقطة على عزو الأقوال إلى أصحابها، وبيان مصادرها المأخوذة منها، لاسيما في المسائل النادرة التي قد تستغرب، وقد قال النووي رحمه الله [ت 676هـ]: من النصيحة أن تضاف الفائدة التي تستغرب إلى قائلها. (بستان العارفين، للنووي، ص: 15)
وعن حكم العزو بشكل عام يقول العلامة الشيخ محمد أحمد بن الرباني الشنقيطي التندغي [ت 1353هـ] في كتابه خلاصة التدريس:
وربما أهملتُ عزوَ الحكم … لشهرة الحكم لأهل العلم
فالعزو لا يلزم غير مُدّعِ … فرعٍ غريبٍ لثبوت ما ادعي
لا المُتعارَفِ لأهل المعرفه … كما حكاه العالم ابن عرفه
منهج التوثيق في أنظام الشناقطة الفقهية
اتبع الشناقطة في أنظامهم منهجية محددة تعتمد على بيان مصدر المعلومات، إما بالإحالة إلى الكتاب أو إلى موضع معين منه، وتوضيح ذلك في ما يلي:
1- الإحالة إلى الكتاب مع ذكر صاحبه: وليس هذا بالكثير في منهجية العزو في الأنظام، ومن أمثلته قول محمد عالي بن عبد الودود المباركي [ت 1402هـ]:
وكل أجر حاصل للشهدا … أو غيرهم كالعلما والزّهَدَا
حصل للنبي مثله على … أجور ما كان النبي فعلا
مع مزيد عدد ليس يُحدْ … وليس يُحصي عدَّه إلا الأحدْ
إذ كل مهتدٍ وعامل إلى … يوم الجزاء شيخه قد حصلا
له من الأجر كأجر العامل … ومثل ذا من ناقص وكامل
وشيخ شيخه له مثلاهُ … وأربعٌ لثالث تلاه
وهكذا تضعيف كل مرتبهْ … إلى رسول الله عالي المرتبهْ
ومن هنا يُعلم تفضيلُ السلفْ … وسبقُهم في فضلهم على الخلفْ
أفاده الحائزُ للسباقِ … على الموطإ ابنُ عبد الباقي
ففي هذه الأبيات أحال الشيخ محمد عالي إلى شرح الموطإ لمحمد بن عبد الباقي الزرقاني [ت 1122هـ].
ومنه قول الآخر:
وكل ما ذكّي من منفوذِ … فيه خلافٌ ليس بالمنبوذ
إذ مالكٌ قد خطّ في الموطّا … إفادةَ الذكاة فيه خطا
ففي الأبيات إحالة إلى كتاب الموطإ لمالك بن أنس رحمه الله [ت 179هـ].
وقول بعضهم:
يجوز بيع اللحم والجبن بلا … وزن ولا كيل إذا ما جهلا
كيفية الوزن على ما عرفا … عندهمُ من كيل او ما جزفا
وإن ترد عزوا لذا المكنون … فانظره في الدرر للمازوني
فهنا أحال الناظم الحكم إلى كتاب الدرر المكنونة في نوازل مازونة لأبي زكريا يحي بن موسى المغيلي المازوني [ت 883هـ].
2 – الإحالة إلى الكتاب دون ذكر صاحبه: ويكون هذا النوع من الإحالة إلى الكتب المشهورة التي لا تحتاج إلى تعريف، وخاصة من شروح مختصر خليل وشروح الرسالة وكتب الفتاوى، ومن أمثلة ذلك قول محمد بن أحمد يوره الديماني [ت 1340هـ] في نكاح السر:
النُّكْح ذو العدلين ليس يُسْمَى … نكاحَ سرّ بل نكاحًا أسْمى
يحي بن يحي قال ذا، وقالهْ … معْهُ ابنُ رشد ناقلا أنقالهْ
والكتم بعد العقد لا يضرُّ … ومطلق النصوص قد يغرّ
وما ذكرتُ في كلا الفرعيْنِ … ففي ميسر رأته عيني
وكتاب “الميسر” المذكور هو ميسر الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل للعلامة محنض بابه بن اعبيد الديماني [ت 1277هـ].
ومنه قول الآخر:
تلطّخٌ عمدا بدون الدرهمِ … من قيح او صديد او من الدمِ
فذاك ينفي العفوَ عنه وانظرا … لوامع الدرر والميسرا
فأحال الناظم إلى الميسر، وإلى لوامع الدرر في هتك أستار المختصر لمحمد بن محمد سالم المجلسي [ت 1302هـ].
وفي هذا النوع من الإحالة تتكرر أسماء كتب كثيرة مثل التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب الذي ألفه خليل بن إسحق المالكي [ت 776هـ]، ومواهب الجليل في شرح مختصر خليل، لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن محمد الطرابلسي المعروف بالحطاب [ت 1230هـ]، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير لمحمد بن أحمد الدسوقي [ت 1230هـ]، وغيرها كثير…
3 ـ الإحالة إلى صاحب الكتاب: وهو أمر يكثر في الأنظام الفقهية الشنقيطية، حيث اشتهر بعض المؤلفين بمؤلفات فقهية محددة، فصار العزو إليه عزوا لكتابه المشهور، ومثال ذلك قول بعضهم:
وكُرهتْ فرقعة الأصابع … عن مالك في سائر المواضع
وخصها بالمسجد ابنُ القاسم … وذاك في الحطاب غير طاسم
فالمقصود “بالحطاب” كتاب مواهب الجليل المذكور آنفا.
ومنه النسبة إلى عبد الباقي، وتعني الإحالة إلى شرح مختصر خليل للشيخ عبد الباقي بن يوسف الزرقاني [ت 1099هـ]، ويعني ذكر البناني الإحالة إلى حاشيته المسماة الفتح الرباني فيما ذهل عنه الزرقاني لمحمد بن الحسن بن مسعود البناني [ت 1194هـ].
ومن ذلك نسبة القول إلى الرهوني فالمقصود كتابه أوضح المسالك وأسهل المراقي إلى سبك إبريز الشيخ عبد الباقي، لمَحمّد بن أحمد الرهوني [ت 1230هـ]، وهو حاشية وضعها على شرح الشيخ عبد الباقي الزرقاني [ت 1099هـ] لمختصر خليل وتعرف بحاشية الرهوني، وذلك مثل قول بعضهم:
المَجُّ ليس من تمام المضمضه … والشرط في المَجّ الرهوني اعترضه
ومثله البنّانِ محتجان … بما به الرد على الزرقاني
ومن النادر أن يكون للمؤلف المقصود أكثر من كتاب مشهور، لكن ذلك قد يقع، وهنا يحتاج الدارس إلى الرجوع إلى الكتابين أو الكتب حتى يتحقق من المصدر، ومثال ذلك الإحالة إلى أبي الحسن علي بن أحمد العدوي [ت 1189هـ]، لأن له كتابين فقهيين مشهورين، هما حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني، وحاشية العدوي على الخرشي، ومثال ذلك قول بعضهم:
معتقدُ السنة فرضا أو يرى … سنيةَ المفروض فيه اسْتظهَرا
العدويُّ صحةَ الذي فعلْ … كمن يرى فرضا جميعَ ما حصلْ
وما حكى العوفيُّ من بطلانِ … صلاةِ مَن يرى أخا استنان
فرضا محلّهُ إذا كان خللْ … أمّا إذا انتفى فصحح العمل
فقد نسب الناظم استظهار هذا القول للعدوي، ولم يعين أحد كتابيه المشهورين.
4 ـ الإحالة إلى باب أو مكان معين من الكتاب: ومن أمثلة ذلك قول محمذن فال بن متالي التندغي [ت 1287هـ]:
قد صحح ابن العربي لزوما … قراءةِ الفاتحة المأموما
في السر، والتحريم فيما جهرا … فيه إذا سمع من أمَّ قرا
لما عليه من الاستماع قد … وجب والإنصات فيما قد ورد
والنّاءِ عن إمامه في الجهر … فذاك في حكم صلاة السر
ذكر ذا الثعالبي الرباني … في منتهى تفسيره المثاني
ففي الأبيات إحالة إلى نهاية تفسير الفاتحة من تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن لعبد الرحمن الثعالبي المالكي [ت 875هـ]، وهذه المسألة هي آخر ما ذكره المفسر في تفسير تلك السورة.
وقال محمد سالم بن عدود المباركي:
وجد زين العابدين حجرا … إذ كان في دار علي حفرا
كُتب فيه قبر بنت صخر … رملةَ ثم ردّه في الحفر
ساق أبو عُمَرَ ذا في باب … رملةَ من كتاب الاستيعابِ
بدون إسناد بصيغة رُوي … وفيه حجة لنقش لو قَوي
فقد أحال الناظم إلى ترجمة أم المؤمنين رملة من كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب لأبي عمر بن عبد البر [ت 463هـ].
ومنه قول أحدهم:
وعاء قربة وطيّ البير … لا يجعلان الماء ذا تغيير
انظره في المغني وفي الدرديري … لدى “وعاء مسافر” مع “بير”
فقد أحال الناظم إلى شرحين لمختصر خليل هما مغني قراء المختصر عن التعب في تصحيح الطرر للمرابط أحمد بن محمد عينينا اللمتوني، والشرح الكبير لأحمد الدرديري [ت 1201هـ] في شرحهما لموضعين من متن خليل في باب الطهارة هما قوله: (أو برائحة قطران وعاء مسافر) وقوله: (أو بئر بورق شجر).
وكذلك قول الآخر:
كل دخان عادة يستعمل … لغرض فالفطر فيه يحصل
مثل البخور وبخار القدر … وكدخان طابة فلتدر
لكن ذا ليس على إطلاقه … بل قيدوا بعامد استنشاقه
ثم دخان حطب ونحوه … مغتفر في عمده وسهوه
فانظره في تحريره المَسُوق … عند شروط الصوم في الدسوقي
فالناظم هنا يحيل القارئ إلى حديث الدسوقي في حاشيته المعروفة عن شروط الصوم.
وقال الآخر في حكم ترك الإقامة عمدا:
وتارك إقامة عمدا حَرِي … أن لا يعيد مطلقا في الأشهر
وقيل في الوقت وقيل أبدا … يعيد من لتركها تعمدا
فانظره في ميسر الديماني … تجدْه فيه آخر الأذان
فهنا أحال الناظم إلى نهاية شرح باب الأذان من كتاب الميسر المتقدم الذكر.
وفي الأبيات التالية إحالة إلى شرح خليل للعلامة أبي عبد الله محمد الخرشي [ت 1101هـ]:
السترة الذراع في المسموع … من عظم مرفق لعظم الكوع
في السلَم الحُكمَ من الخرشي انقلِ … لدى “وجاز بذراع رجل”
حيث أحال الناظم إلى شرح المؤلف لقول خليل في باب السلم: “وجاز بذراع رجل معين”.
ومن هذا النمط من الإحالة قول عبد الله بن مختارنا:
واقتُصّ من مؤدِّب زاد على … ثلاث أسواط على ما نَقَلا
عن أشهبَ المَوّاقُ عند فرع … “وأمر الصبي بها لسبع”
فقد أحال قول أشهب المنقول عنه إلى المَوّاق، والمقصود كتاب التاج والإكليل لمختصر خليل لأبي عبد الله محمد بن يوسف الغرناطي المعروف بالمَوّاق [ت 897هـ].
هذه لمحة سريعة تعطي صورة عن المنهجية التي اتبعها الشناقطة في توثيق الفروع الفقهية عند نظمها، وهو توثيق يعطي مصداقية كبيرة للنظم، ويعكس الأمانة العلمية للناظم في تناوله للعلوم.
المراجع:
مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن محمد الطرابلسي المعروف بالحطاب، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1412هـ، 1992م.
جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف ابن عبد البر القرطبي، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، 1414هـ، 1994م.
بستان العارفين، لأبي زكريا محي الدين يحي بن شرف النووي، دار الريان للتراث.
خلاصة التدريس للمبتدئ والعالم النقريس، للعلامة الشيخ محمد أحمد بن الرباني الشنقيطي التندغي (نسخة مرقونة)
المختار من الأنظام في مختلف مسائل الأحكام، للأمانة بن إبراهيم الشنقيطي الغلاوي.
دروس شرح مختصر خليل، للعلامة الشيخ بن حَمّ. (منشور على الأنترنت في دروس)