إذا كان الموت فاصلا خفيفا بين وجودين، كما يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، فإن البلاء فواصل في رحلة استكمال الوجود الأول. ولا محيد للإنسان عن الوقوع تحت التجربة ليَمتحن إيمانه، ويطهر قلبه، ويتخلص من أسر العوائد التي تزين له الغفلة و الإخلاد إلى الأرض.

يحل البلاء بالناس فتصحبه رسائل من ربهم. قد تذهل عنها الأبصار حينها، لكن البصائر تلتقطها لتشعر بالمنح في طيات الشدائد، وتتيقن النفوس أن الآمر بذلك هو أرحم الراحمين. إلى هذا أرشد الأنبياء عليهم السلام، الذين كانت حياتهم وبعثتهم نماذج للبلاء والفقد، واحتمال المصاعب الإنسانية بكل أشكالها.

من عرف جريان الأقدار ثَبتَ لها، يقول ابن الجوزي رحمه الله : والثبات هنا يكون بالاحتمال واللجوء إلى الوسائل التي دلّتنا عليها الآيات والأحاديث النبوية، من استغفار و تضرع ولزوم للصبر وغيرها. إلا أن خلف الثبات غاية أخرى قلّما يلتفت إليها المبتلى، وهي الوجه المشرق للبلاء، إن صح التعبير، والثمرات التي يجنيها المرء من المحنة، و التي ينبغي أن تشكل لديه فارقا بين وضعه قبل البلاء، والتغيير الذي سيُحدثه فيما بعد.

من ثمرات البلاء تمييز الخبيث من الطيب مصداقا لقوله تعالى: { ما كان الله ليَذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } آل عمران:179.

وفي السيرة النبوية تستوقفنا محطات كشف فيها البلاء عن الفارق الجلي بين الجماعة المؤمنة والطابور الخامس، سواء في معركة أحد ،أو في حادثة الإفك، أو غيرها من الوقائع المتعددة التي حددت مواطن الخبث في كيان المجتمع الإسلامي آنذاك.

ومن ثمرات البلاء كشف تفاوت همم الناس وحقيقة سعيهم، ومنسوب التدين الذي يحكم سلوكهم الخاص والعام. يقول الحسن البصري: “الناس في العافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقيقتهم”. وإن كنا نلتمس للطبيعة البشرية عذرا في سعيها للخلاص الفردي، إلا أن البلاء مؤشر على مدى تشبعها بالحس التضامني الذي تفرضه مبادئ الأخوة الإيمانية، والبنيان المرصوص، والجسد الواحد الذي تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.

يحدد البلاء إذن مستوى الأجرأة الفعلية للأخلاق الإسلامية، بعيدا عن الخطب الرنانة التي قد تسهم، بقصد أو بدونه، في تخدير الحس العام. وبذلك يوجه أنظار خطباء الأمة وعلمائها إلى مواطن الخلل التي تعيق حركة المسلم وتفاعله مع مَن حوله.

ومن ثمرات البلاء تحقيق معنى الإنابة، بالرجوع إلى الله تعالى والانكسار له، والتحرر من قيد الغفلة والشهوات. ورغم أن الناس يتفاوتون في الإنابة إلى الله، ما بين منيب له في سائر الأحوال، ومضطر عند الشدائد والضراء، كما يعرض لذلك ابن القيم في [طريق الهجرتين وباب السعادتين]، إلا أن لها أثرا عجيبا يهز مشاعر الإنسان من داخله، ويوقظ حسه المفعم بالولاء للأسباب، و المنتشي بما حققته الإرادة البشرية بمعزل عن أي تدخل إلهي، بحسب ما تُلوّح بذلك الثقافة السائدة اليوم.

كما أن الإنابة تكسر حدة العجب والكبر الذي ينتاب الناس في حال الاستقرار والعافية. وتُذكر الإنسان بضعفه وهشاشته، وعجزه عن الاستقلال بذاته وإمكاناته في مواجهة صنوف البلاء التي تعترض مسيرته ووجوده.

إن ثمرات البلاء وصفحته المشرقة، كما أسلفت، توجب علينا الانتباه إلى المسافة الفاصلة، على مستوى الفهم والتقدير، بين المجتمع المسلم وبقية المجتمعات الأخرى. فالبلاء في ديننا الحنيف جزء من منظومتنا العقدية، وحياة المسلم لا تكف عن الدوران مع الشدة والرخاء، ومع العافية والبلاء حتى تبلغ أجلها المحتوم.

أخرج البخاري في صحيحه(7466) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” مثل المؤمن كمثل خامة الزرع يفيء ورقه من حيث أتتها الريح تُكَفئها، فإذا سكنت اعتدلت، وكذلك المؤمن يُكفّأ بالبلاء، ومثل الكافر كمثل الأرزة صمّاء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء”. ودلالة الحديث هنا أن رضى المؤمن بما يصيبه، وإذعانه لمراد الله تعالى وابتلائه، يُرسخ في النفس قناعة بأن كل صنوف البلاء مأمورة، و أن الاجتهاد لدفع آثارها لا يجب أن يوقع المسلم في دائرة الفزع والذعر الذي يَذهل بسببه عن مقتضى العبودية.

تتردد اليوم في وسائل الإعلام الراصدة لتحركات “كورونا” عبارة مؤداها أن هذا الفيروس عدو للبشرية.وإذا أقررنا بأنه مخلوق غير عاقل، فمن حقنا أن نتساءل عما يثيره العقلاء في أرجاء المعمورة، من حروب ومؤامرات وسياسات جائرة؛ قتلت الملايين من الأبرياء، وشرّدت ألوف الأسر، وأنهكت الصغار والكبار في ترحال لا ينقطع بين خيام اللجوء !