يعد كتاب “جمود الدراسات الفقهية..أسبابه التاريخية والفكرية ومحاولة العلاج” للكاتب المغربي أحمد الخمليشي، محاولة جادة وجريئة للجواب عن سؤالين مؤرقين هما : “لماذا يشتغل الآلاف بدراسة أصول الفقه ولا ينتجون فقها ؟ولماذا لا يهتم دارسو الفقه الإسلامي والباحثون فيه بوقائع الحياة كما يعيشها الناس؟ ولا يكتفي الكاتب بالأسئلة، بل يقدم جملة من الأفكار والمقترحات، وضعها في وصفة علاجية لما أسماه “مساعدة على إنقاذ الفقيه من جموده .
كتاب “جمود الدراسات الفقهية” الذي يقع في حدود 264 صفحة، صدر سنة 2010 وطبع عدة مرات في الرباط بدار “المعرفة” سنة 2010. وفي القاهرة بدار “الكلمة” للنشر والتوزيع عام 2014.
بغض النظر عن قبول أو رفض ما يعرضه الكاتب من مادة فكرية وفقهية بين طيات صفحاته، فإن الكتاب جدير بالقراءة لما يتضمنه من أفكار تجديدية وطابع نقدي و أسلوب منهجي بسيط ومريح للقارئ لتسلسل أفكاره ودقة مصطلحاته. وقبل أن نتحدث عن الكتاب لنتعرف أولا على الكاتب.
من هو أحمد الخمليشي؟
أحمد الخمليشي، مفكر مغربي يعنى بـ الدراسات الإسلامية، له رؤية تجديدية في كثير من القضايا الفكرية والفقهية. حصل على دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص من كلية الحقوق بالرباط عام 1962 م، والدكتوراة في القانون الخاص من كلية الحقوق بالرباط عام 1974 م. شغل منصب قاض في محكمة الاستئناف ورئيساً للمحكمة الإقليمية من 1960 إلى 1970 م، وأستاذًا بكلية الحقوق بالرباط من 1971 إلى 2000 وهو الآن يشغل منصب مدير لمؤسسة دار الحديث الحسنية بالرباط.
للأستاذ الدكتور أحمد الخمليشي العديد من التآليف والمشاركات العلمية منها:
“شرح القانون الجنائي العام”، “شرح القانون الجنائي الخاص”، “شرح قانون المسطرة الجنائية “، “التعليق على مدونة الأحوال الشخصية”، “المسؤولية المدنية للأبوين على أبنائهما القاصرين”، “دراسة تمهيدية لمشروع القانون العربي الموحد في مجال رعاية الأحداث”، “تشريعات قضاء التحقيق في الدول العربية”، سلسلة “وجهة نظر” حول نقد الفكر الفقهي الإسلامي ووسائل تجديده صدرت منها ثمانية أجزاء:
1- وضعية الأسرة والاجتهاد الفكري،
2- الأسرة والطفل والمرأة وأصول الفقه،
3- الفكر الفقهي ومنطلقات أصول الفقه،
4- خلل يجب الوعي به،
5- الاجتهاد تصور وممارسة،
6-ضرورة تحيين الفقه الإسلامي،
7- جمود الدراسات الفقهية..أسبابه ومحاول العلاج،
8- الربا بين النصوص وتفسيرها..
بالإضافة إلى أبحاث ومقالات قدمت في مؤتمرات وندوات داخل المغرب وخارجه.
وفي هذا الكتاب يناقش الباحث قضايا تهم الدراسات الفقهية والفكر الفقهي والفقه الإسلامي في علاقته بالواقع، وما يراه منطلقًا لرؤية تجديدية تتجاوز الرؤية التقليدية ومقولاتها التي تقف دون انفتاح العقل الفقهي على الواقع ومتطلباته.
ضوابط الإمام الشافعي
يقول الخمليشي في مقدمة كتابه أن “علم أصول الفقه فكرة عقلانية خلاقة في ظل الظروف التي كان يعيشها المسلمون في القرن الثاني الهجري من الهند إلى أقصى شمال إفريقيا والأندلس ومن القوقاز إلىى اليمن وجنوب السودان…”وهي شعوب -كما يقول الخمليشي- لا يُعرف إن كانت قد اعتنقت الإسلام عن وعي وإدراك، كما أنها شعوب تتحدث عشرات اللغات وقليل منها من يتقن لغة الدين الجديد.
ويؤكد الخمليشي أن الإمام الشافعي يعتبر بحق صاحب رؤية ثاقبة عندما أسس علم أصول الفقه بوضع ضوابط تفسير نصوص الشريعة مؤكدًا على ضرورة توفر المنتصب للتفسير على معرفة واسعة بالنصوص ذاتها، وعميقة باللغة العربية ودلالات مفرداتها وعباراتها، فلولا هذه البادرة الدالة على عمق في التفكير وشعور بالمسئولية لاستحال الأمر إلى فوضى في تطبيق شريعة الإسلام في أقاليم متباعدة جغرافيا، متباينة النحل والأعراف والتقاليد مختلفة اللغات ولهجات التواصل، لكن كل فكرة جديدة ومبتكرة تنشأ ناقصة، تستكمل عناصرها ونضوجها بالمناقشة وملاحظة النتائج في التطبيق.
حقائق نهائية تنقل ولا تتعقل
ويتساءل الكاتب :هل حصل هذا لأصول الفقه؟ تناول الدارسون بالتحليل جوانب هامة من موضوعات أصول الفقه ودققوا المناقشة لعناصرها، مع ذلك بقيت موضوعات أخرى تلقن بصفتها حقائق نهائية تنقل ولا تتعقل، وهذا ما أساء إلى علم أصول الفقه وأصاب الفكر الفقهي بالشلل الذي أصبح بمرور الزمن مزمنا عصيا على العلاج.
ويعدد الخمليشي أمثلة كثيرة مثل: إسناد التقرير في جميع شؤون الحياة إلى فرد دون حسيب أو رقيب في التعليل والتبرير، مع حتمية آراء الأفراد، أغفل التفكير في وسيلة لتدبير الاختلاف والمحافظة على تماسك المجتمع والتعايش السلمي بين أفراده، تخصص الفرد “المجتهد” قاصر على معرفة ضوابط التفسير الأصولية التي لا تفيد إلا في النصوص التفصيلية الظنية الدلالة، ولا توصل إلا إلى الظن والترجيح لأحد معاني النص، تغييب الأمة عن المساهمة في التقرير، وعن الشعور بالمسؤولية الجماعية عن تلقي خطاب الشريعة وحسن التطبيق لمضمونه في بناء المجتمع والتخطيط لمسيرته.
ويستنتج الخمليشي في الأخير أن الرأي الذي ساد أصول الفقه انتهى إلى إلغاء دور العقل في فهم نصوص الشريعة وتفسيرها ورسخ مبدأ “العقل لا يحسن ولا يقبح”، ويقدم لكتابه بقوله “هذه بعض منافذ الخلل الذي أصاب الفكر الأصولي والفقهي بالعطب المزمن، ولا أمل في إصلاحه إلا بمناقشتها وتدارك ما فيها من أخطاء – فهل نحن واعون بهذا؟ الجواب تقدمه مؤسسات التكوين والبحث في الدراسات الإسلامية العليا”.
فقهاء لا ينتجون فقها!!
كتاب “جمود الدراسات الفقهية” محاولة للجواب عن سؤالين مؤرقين للعديد من الدارسين والمهتمين بقضايا الفقه الإسلامي:
لماذا يشتغلالآلاف والآلاف بدراسة أصول الفقه ولا ينتجون فقها ؟
- لماذا لا يهتم دارسو الفقه الإسلامي والباحثون فيه بوقائع الحياة كما يعيشها الناس ويساهمون في تحليل عناصرها واقتراح الحلول الملائمة لتنظيمها ؟
من المؤكد أن أسباب جعجعة الدراسات الأصولية دون طحين، والإهمال المتعمد لوقائع الحياة المعيشة ترجع الى خلل – أو “عطب قديم” بتعبير الملك عبد الحفيظ في بداية القرن العشرين- في بعض التصورات المقدمة في دراسات أصول الفقه تمكنت من تعقيم هذه الدراسات وتعطيلها من الإنتاج المرغوب فيه.
أولا: أزعم أن في مقدمة نوافذ الخلل أو العطب :
- إسناد صلاحية التقرير للأحكام المنظمة للعلاقات الاجتماعية إلى “المجتهد” باسم تفسير النصوص الخاصة وتنزيل الكليات والنصوص العامة، مع الإهمال الكلي لآية (وأمرهم شورى بينهم). ومع إضفاء صفة “أحكام الله” على الآراء الاجتهادية سواء عند المصوبة أو المخطئة من الأصوليين، وهو ما يفرض على الدارس تلقيها بروح الإذعان والامتثال وليس بهاجس النقد والتقييم وإمكانية التغيير.
- تغييب الأمة عن التقرير وعن الشعور بالمسئولية عن تنظيم المجتمع والتخطيط لمسيرته بقصر توجيه الخطاب إلى الفرد وحده بما في ذلك ما سمي «فروض الكفاية».
ثانيا: أن مما يساعد الدراسات الأصولية على تحقيق أهدافها تلقين روادها:
- حق الإدلاء بالرأي في تنظيم حياة المجتمع لكل من أنس القدرة على ذلك.
- اعتبار الآراء الاجتهادية آراء شخصية في التفسير يستأنس بها بقدر ما تتوفر عليه من سند.
- التركيز على آية (وأمرهم شورى بينهم) باعتبارها المحور الأساسي لأصول الفقه.
- قيام كل حكم من أحكام الشريعة في المعاملات على علة بمفهوم الحكمة أي تحقيق مصلحة أو درء مفسدة، وبالتالي تطبيق مبادئ: إمكانية تغير الأحكام بتغير الزمن أو المكان، الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وجوب مراعاة مآل التطبيق في الأحكام..
تشريح وعرض الحالة
قسم الخمليشي كتابه “جمود الدراسات الفقهية” إلى قسمين: القسم الأول تناول فيه مسألة “نشأة وتطور الفقه وأصوله وواقعهما” وتضمن الفصل الأول عن “نشأة الفقه وأصوله” شرح فيه جملة من المفاهيم المتعلقة بالفقه والشرع والعلم ونصوص الوحي وطبيعة ووسائل التفسير والمفسر وغيرها.
وفي الفصل الثاني تطرق لمسألة تطور أصول الفقه، وتحدث فيه عن ما أسماه “مبادئ وأفكار كانت في حاجة إلى تقويم” تضمنت شرحا لمصادر التشريع (السنة، الإجماع، الآثار) ومصادر الاجتهاد (وسائله، القائمون به، والحكم الاجتهادي)، وتطرق الخمليشي في هذا الفصل إلى “مبادئ ومفاهيم أسيء تفسيرها في التطبيق” ومنها المصلحة وعلة الحكم والمجتهد وقواعد التفسير وضوابطه وغيرها.
وذيل هذا الفصل بخلاصة أكد فيها أن الإغفال عن تقويم بعض المبادئ والقواعد التي أسس عليها علم أصول الفقه وإساءة تطبيق البعض الآخر أديا إلى نتائج سلبية:
- غياب القراءة النقدية الهادفة إلى التطوير عن طريق التقويم.
- طغيان المناقشات اللفظية وتفريع الخلافات على حساب التحليل
- بعد التنظير عن الممارسة
- العقم الكلي للانتاج الفقهي فقد فرض التقليد المذهبي ومنع مجرد الخروج عن الإمام وكبار مقلديه.
في الفصل الثالث، تناول مؤلف كتاب “جمود الدراسات الفقهية” مسألة “واقع الفكر الأصولي والفقهي”، وتحدث عن التلقين ومقاصد الشريعة واستمرار تجاهل مؤسسات التشريع والفتاوى والاجتهاد الجماعي.
وخصص الخمليشي القسم الثاني من كتابه إلى الجوانب العلاجية، فجاء عنوان هذا القسم: “محاولة العلاج”، حيث تعلق الفصل الأول بأصول الفقه، والفصل الثاني بالفقه.
جينات الفكر الفقهي ومقترح العلاج
وانتهى الخمليشي في نهاية كتابه إلى خلاصة، أكد فيها أن التأسيس لفهم آخر رسالات السماء لم يكن أمرا هينا، لكن الأمر كان – كما يقول الكاتب – مثقلا بثقافة صارمة في موضوع التعامل مع الدين وغيبياته، وهذا – كما يعتقد- كان سببا لنشوء الفكر الفقهي حاملا لجينات تعيق النمو والتطور.
ويقول الخمليشي أنه على الرغم من أن القرآن حث على استعمال العقل ومسؤولية الفرد والتنفير من التقليد إلا أن هناك مساهمات يرى أنها ساعدت أو أدت إلى توجيه مسيرة الفكر الفقهي جمعها في عدة أفكار تتعلق أساسا بالوقائع التي تحدث للانسان وحكمه، واكتشاف الحكم الأزلي، وهامش تحرك “المجتهد” والمعرفة المطلوبة فيه، وصفة الرأي الاجتهادي والحكم الشرعي..
ويصف الكاتب هذه الأفكار بالـ “الوضع الشاذ” ثم يقترح عدة أفكار لتجاوزها.
أولا: في مجال أصول الفقه
- إبراز الحق بوصفه حكما شرعيا مع التأكيد على عناصره الأساسية وفي مقدمتها وجوب حمايته.
- تجاوز المفهوم المختزل لمصطلح “الحاكم” والاعتراف بأن الإنسان “حاكم”في ما هو مسؤول عن تدبيره.
- التمييز في السنة بين الوحي والتدبير السياسي والإداري لشؤون المجتمع الإسلامي.
- التخلي عن ادعاء اكتشاف “المجتهد” لحكم الله الأزلي واعتبار رأيه “حكما شرعيا” ملزما.
- التخلي عن مبدأ الكثير من الأصوليين وهو “العقل لا يحسن ولا يقبح” لأنه يتناقض مع الدين الذي يأمر باستعمال العقل.
- الحديث عن المعرفة المؤهلة لتفسير النصوص ولكن دون تقسيم الناس إلى مجتهدين ومقلدين.
- التأكيد على أن ضوابط أصول الفقه لا تساعد دارسها إلا في تفسير النصوص الجزئية.
- إنهاء التجاهل للواقع الذي تعيشه جميع المجتمعات الإسلامية نتيجة التطور الحاصل في مفهوم الدولة.
ويتساءل مؤلف كتاب “جمود الدراسات الفقهية”: هل يمكن مثلا اليوم الأخذ بمصطلحي: “المجتهد” و”المقلد” في تنظيم شؤون الحياة: أنظمة الشركات، القضاء، العمران، الحريات العامة. كما ينصح الاصوليين بعدم التهرب ومواجهة حقائق الواقع إذا أرادوا التأسيس لفقه يساعد الناس على تنظيم شؤون حياتهم والسير بها إلى الأفضل.
ثانيا: في مجال الفقه
- الفقه يعني عرض الوقائع والعلاقات المعيشة وتكييفها، وفهم النصوص وتطبيقها على هذه الوقائع، والمنتسبون إلى زمرة “الفقهاء” يكاد يكون جميعهم يقتصرون على الحكاية والنقل، لذلك ينبغي ألا يُسمح بحمل وصف “الفقيه” أو “العالم” إلا من ثبُتت مساهمته في إنتاج الفقه والحلول الميسرة للتعايش ومواصلة البناء وعمارة الأرض.
- التحديد الدقيق لمجال الفقه المؤسس على ضوابط التفسير الأصولية.
- الالتزام بالمفهوم اللغوي والمنطقي لمصطلح “الفقه” وهو أنه رأي شخصي في تفسير النص وهو ما يفرض إنهاء وصفه بالحكم الشرعي الملزم وتعويض ذلك باقتراح المؤسسة التي يمكنها المقارنة بين مختلف الآراء.
- التوقف النهائي عن فتاوى التحليل والتحريم وإصدار الأحكام القطعية باسم الشريعة، بسبب ما ينشأ عنها من أضرار وفتن بدءا من التعدد والتناقض أو عدم المعرفة.
- التطبيق الفعلي لمبدأ “تغير الأحكام بتغير الزمن” الذي يتداوله الفقه كثيرا دون أن يجد سبيلا للتطبيق.
- ضرورة خروج الفقيه من العزلة التي سجن نفسه فيها ومناقشة المستجدات من أفكار وأوضاع ونظم وطنية وعالمية بأسلوب الحوار والاقناع ودافع الرغبة في البحث عن الحق والصواب، وليس بنبرة الرفض المبيت ولغة الوصاية وإلقاء الأحكام الجاهزة باسم الله أو باسم الشريعة.
ويتوقع الكاتب في الأخير أن ما يقترحه من أفكار “كمساعدة على إنقاذ الفقيه من جموده” سيُواجه بالرفض ليس فقط من بعض العلماء الذين لن يتقبلون منازعتهم في وظيفة الوساطة بين نصوص الدين والمؤمنين به، وإنما أيضا من “المؤمن العادي” الذي أسرته ثقافة تشكلت منذ أول عهد للانسان.