يواجه عقل المسلم المعاصر تحديات كثيرة، وإشكالات مستجدة في مختلف المجالات، مما يؤكد حاجة هذا العقل إلى الاجتهاد والتجديد، حتى يمكنه التعامل بفاعلية و”ديناميكية” مع هذه التحديات وتلك المستجدات.
فلا سبيل لمواجهة الواقع، بما يحمله من قضايا ونوازل، إلا بالاجتهاد والتجديد؛ لأنه إذا كانت النصوص متناهية، أي محدودة، والنوازل غير متناهية، أي غير محدودة لا تكف عن التَّوالد والطُّرُوء.. فلا يمكن التعامل مع هذا الواقع إلا بالاجتهاد والتجديد الذي يصل غير المحدود بالمحدود، والنوازل بالنصوص.
وإذا تأكدت حاجتنا المستمرة إلى الاجتهاد والتجديد، المنضبط بالضوابط المقررة، فإن هذا الاجتهاد والتجديد بحاجة إلى العقلية الناقدة البصيرة الممحِّصة.
ذلك أن العقلية غير الناقدة، التي تركن إلى الحفظ والفهم الساذج، وترضى من النصوص بظواهرها، ليست مؤهَّلة للغوص فيما وراء ذلك من مقاصدَ وحِكَمٍ وغايات، وليست مؤهلة أيضًا لسبر أغوار الواقع الحيّ المتجدد.. فتفقد بذلك الشرطين الأساسَيْن اللازمين لعملية الاجتهاد والتجديد، وهما العلم بالنص وبالواقع.. ولا تعرف كيفية الوصل والاتصال بينهما.
و”النقد” الذي نقصده هو النقد الذي يستطيع أن يميِّز المعاني بعضها من بعض، ويمحِّص الأفكار صحيحها من سقيمها، ويفرز المواقف صوابها من خطئها، بل أصوبها من صوابها، وأشدها خطأ من أخفِّها.
وهذا المعنى يتسق مع المقصود من الكلمة في اللغة؛ فـ”النُّونُ وَالْقَافُ وَالدَّالُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى إِبْرَازِ شَيْءٍ وَبُرُوزِهِ. مِنْ ذَلِكَ: النَّقَدُ فِي الْحَافِرِ، وَهُوَ تَقَشُّرُهُ. وَمِنَ الْبَابِ: نَقْدُ الدِّرْهَمِ، وَذَلِكَ أَنْ يُكْشَفَ عَنْ حَالِهِ فِي جَوْدَتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَدِرْهَمٌ نَقْدٌ: وَازِنٌ جَيِّدٌ؛ كَأَنَّهُ قَدْ كُشِفَ عَنْ حَالِهِ فَعُلِمَ”([1]).
إذن، النقد يكشف عن حقيقة المعنى، ويُبرز مقصده وحكمته، ويوازن بين النظائر، ويَنفُذ إلى الجوهر.
وقبل أن نشير إلى ما يتطلبه هذا النقد، نلفت النظر إلى أنه ربما أسهم في غياب العقلية النقدية على النحو المرجو، ما قد يفهمه البعض خطأً من توجيهات تدعو إلى ترك الجدال، أو من أخلاق تحث على الإخلاص ونكران الذات..
ولا علاقة بين الأمرين برأيي؛ فإن النقد غير المراء، والنقاش الجاد البنّاء غير السفسطة والمراوغة؛ كما أن الإخلاص سلوك قلبي لا يعني أبدًا أن يكف العقل عن تقليب وجوه الرأي والفكر فيما يَعرِض له أو يُعرَض عليه؛ وإلا لانتفت الحكمة من التوجيهات الكثيرة بالتدبر والتفكر وإعمال العقل، وبعدم التسليم بالموروث أو اتباع الآخرين دون دليل..
مثل قوله تعالى:{قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101). وقوله أيضًا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170).
أما ما يتطلبه النقد، فهما شرطان أساسان: العلم بالقضية المطروحة للنقد، والتحلي بأدب النقاش والاختلاف.
أما الشرط الأول: وهو العلم بالقضية المطروحة للنقد، فهذا أمر ثابت واضح؛ لأن عدم العلم الصحيح بالقضية المطروحة يَنتج عنه خللٌ في التصور، ومن ثم خلل في الحكم، بما يؤدي إلى عدم التعامل مع القضية كما ينبغي: فَهمًا وتحيليلاً وتمحيصًا وبناءً عليها.. فينحرف مسار النقد لغير وجهته.
والعلم المقصود هنا يتجاوز معرفة قشور الشيء، إلى النفاذ لجوهره؛ فلا يمكن نقد فكرة ما إلا بعد الإحاطة بها جيدًا وكما يتصورها أصحابها القائلون بها، وليس كما يزعم عنها معارضوها المنتقدون لها.. فربما لجأ معارضو فكرة ما إلى تشويهها أو ابتسارها، ثم راحوا يقيمون الدليل على بطلان ما يتصورنه عنها. ولهذا، لا تُؤخد الفكرة إلا من أصحابها، ثم بعد التصور الصحيح يأتي النقدُ موافقةً أو مخالفةً.
وقد لفت الإمام أبو حامد الغزالي لهذه النقطة؛ فأشار، في الحديث عن تجربته في نقد الفلسفة، إلى أنه عرفها جيدًا أولاً، كأحسن ما يعرفها أصحابها، ثم أتى عليها بالنقد ثانيًا؛ فقال رحمه الله: “ثم إني ابتدأتُ- بعد الفراغ من علم الكلام- بعلم الفلسفة؛ وعلمت يقينًا أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم، مَن لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم، ثم يزيد عليه، ويجاوز درجته، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم، من غوره وغائله؛ وإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقًّا. ولم أر أحدًا من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك. ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم- حيث اشتغلوا بالرد عليهم- إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد، لا يظن الاغترار بها بعاقل عامي، فضلاً عمن يدعي دقائق العلم؛ فعلمت أن ردَّ المذهب قبل فَهْمه والاطلاع على كنه رَمْيٌ في عَمَاية”([2]).
وأما الشرط الثاني: وهو التحلي بأدب النقاش والخلاف، فهو أمر ضروري؛ إذ ما أكثر ما فوَّت عدمُ الالتزام بأدب النقاش والخلاف الوصولَ للحق، والاتفاقَ على كلمة سواء؛ فضاعت الحقيقة وسط الضغائن، واستخْفَت النفوس خلف الرأي والحجة؛ وما ثمة رأي ولا حجة!!
إن النقد ليست عملية فكرية خالصة، وإنما يتطلب إطارًا نفسيًّا وخُلقيًّا يُلزم صاحبه بالبحث عن الصواب، وبالتزامه متى اتضح له، وبعدم الدخول في نقاشات عقيمة توغل في التيه، أكثر ما تقصد للجوهر!
وهذا أمر مشاهَد في فترات التراجع الحضاري؛ حيث يكثر الجدل، وتطغى سخائمُ النفوس. وقد حذر الحديث الشريف من عاقبة ذلك؛ فعن أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ، إِلَّا أُوتُوا الجَدَلَ»، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف: 58)([3]).
قال المباركفوري: “وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ ضَلَالَتُهُمْ وَوُقُوعُهُمْ فِي الْكُفْرِ إِلَّا بِسَبَبِ الْجِدَالِ وَهُوَ الْخُصُومَةُ بِالْبَاطِلِ مَعَ نَبِيِّهِمْ، وَطَلَبِ الْمُعْجِزَةِ مِنْهُ عِنَادًا أَوْ جُحُودًا. وَقِيلَ مُقَابَلَةُ الْحُجَّةِ بِالْحُجَّةِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ هُنَا الْعِنَادُ. وَالْمُرَادُ فِي الْقُرْآنِ ضَرْبُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ لِتَرْوِيجِ مَذَاهِبِهِمْ وَآرَاءِ مَشَايِخِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ نُصْرَةٌ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ؛ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ، لَا الْمُنَاظَرَةُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ كَإِظْهَارِ الْحَقِّ فَإِنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ”([4]).
فإذا حققنا هذين الشرطين؛ أي أحطنا علمًا بما نحن بصدد نقده وفرزه، وتحلينا بأدب النقاش والخلاف.. توافرت لدينا القدرة على ممارسة النقد الصحيح، وبما يثري الفكر، ويدفع بالاجتهاد والتجديد قُدمًا إلى الأمام، نحو مواجهة التحديات، والتعاطي مع الواقع بوعي وبصيرة، والبناء على الأفكار والاتجاهات بعد فرزها وتمحيصها..
([1]) معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، 5/ 467، دار الفكر، 1979م، تحقيق: عبد السلام هارون.
([2]) قضية التصوف، المنقذ من الضلال، د. عبد الحليم محمود، ص: 341، دار المعارف، ط3.
([3]) رواه الترمذي في سننه، حديث رقم (3253)، 5/ 378. وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ حَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ وَحَجَّاجٌ ثِقَةٌ مُقَارِبُ الحَدِيثِ، وَأَبُو غَالِبٍ اسْمُهُ: حَزَوَّرُ.
([4]) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، أبو العلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفورى، 9/ 93، دار الكتب العلمية – بيروت، بدون تاريخ.