يتضمن كتاب (تكوين العقل العربي) لمؤلفه محمد عابد الجابري فصلين بعنوان:(العقل المستقيل) مع عنوان فرعي مختلف، وقد عني في هذين الفصلين بمسألتين هما: التوغل في دروب الفلسفة اليونانية القديمة ثم تتبع ملامح تأثيرها في الثقافة العربية الإسلامية وخصوصا في علوم التصوف والكيمياء والتنجيم، وسنركز في هذه القراءة على العنصر الأخير أي ملامح تأثير العقل المستقيل في الثقافة العربية والإسلامية، وقبل أن ندخل في تفاصيل مقاربته لهذه النظرية لا بد من التعرف على دلالة (العقل المستقيل) عنده، فماذا يعنيه هذا التعبير؟
إن العقل المستقيل عند الجابري هو ذلك العقل الفلسفي القديم الذي مثلته الهرمسية والمانوية وغيرها و”التي أعلنت عجز العقل البشري عن تحصيل أية معرفة عن الله من خلال تدبر الكون الشيء الذي ينتج عنه أن معرفة الإنسان لـ(الكون) يجب أن تمر عبر اتصاله المباشر بالحقيقة العليا: الله، وهو ما يجعل ذلك العلم ذاتيا وليس موضوعيا، حيث إن مجال الروح و(عرفانها) خاص وليس عاما.
ويذهب الجابري إلى أن حضور الموروث القديم(مادة العقل المستقيل) في الثقافة العربية الإسلامية بدأ حضورا (عاميا) وليس (علميا)، وذلك قبل عصر التدوين الذيث بدأ هذا الحضور فيه يأخذ طابعه العلمي المنهجي، ويظهر هذا التعاطي العامي مع الموروث الفلسفي القديم مع المفسرين الأوائل الذين ضمنوا كتبهم كثيرا من الشروح التفصيلية عن كيفية بدء الخلق وكيفية بعثه ونشوره مما يظهر فيه أثر التخرص والتخمين.
وقد لاحظ ابن خلدون هذه الظاهرة فقال إن كتب المفسرين”… تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود، والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوفوا إلى معرفة شيء مما تتشوف إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدون منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى، وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب”.
لا شك أن ترجمة العلوم القديمة وخصوصا الكيمياء والتنجيم والطب كانت في وقت مبكر؛ حيث تجمع المصادر على أن خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85هـ) كان أول من اشتغل في الإسلام بالعلوم القديمة، وأنه نقل تلك العلوم من الاسكندرية موطن الهرمسية القديم، وقد جمع خالد بن يزيد جماعة من الفلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل بمصر وقد تفصح بالعربية وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان القبطي واليوناني إلى اللسان العربي، ويقول ابن النديم إن هذا كان أول نقل في الإسلام من لغة إلى لغة.
ويعلق الجابري على هذه المعلومات عن أول الترجمات في التاريخ الإسلامي بقوله:”…فنلسجل إذن أن أول ما نقل إلى الثقافة العربية الإسلامية من (علوم الأوائل) كان من العلوم الهرمسية (السرية) السحرية، ومن المركز الأصلي للهرمسية: الاسكندرية، ولعل هذا وحده كاف لفهم موقف أهل السنة القدماء بإزاء علوم الأوائل، فلقد كان أول ما عرفه المسلمون من علوم الأوائل هو العلوم الهرمسية التي تحمل في طياتها ـ فضلا عن ارتباطها بالسحر ـ عقيدة دينية مخالفة لعقيدة الإسلام”.
ويتتبع الجابري بعض مقولات الكيميائي المتصوف جابر بن حيان ليقيم الدليل على تأثر فلسفته في النفس والكون بالفلسفة الهرمسية، ثم يعرض للمكانة التي حظي بها (علم التنجيم) وهو أحد علوم (العقل المستقيل) ـ حسب الجابري ـ في عهد الخليفة المنصور الذي يؤكد أنه قرب المنجمين وكان يستشيرهم في شؤونه مما جعل هذا العلم يزدهر في عصره ازدهارا كبيرا.
ويتابع الجابري في تتبع ملامح تأثير العقل المستقيل في الثقافة العربية الإسلامية ويقدم قراءة عميقة لتاريخ التصوف الإسلامي وأعلامه مبينا من خلال مقولاتهم تأثرهم بالثقافة الهرمسية، ليختم حديثه عن أثر تلك الثقافة في التصوف بقوله:”… لقد تعمق التصوف الإسلامي في بحر الهرمسية فأمسى هرمسيا تماما”.
ويرى الجابري أن التمييز الذي أقامته اتجاهات عديدة في الإسلام، انطلاقا من عصر التدوين، وبالتالي بدافع من معطياته، بين (الظاهر) و(الباطن) في الخطاب القرآني لم يكن إلا صدى لذلك التمييز القديم بين التعاطي العامي مع الموروث القديم والتعاطي العلمي معه، ويحكم الجابري بأن” جميع من اعتمدوا هذا التمييز وخصوصا منهم الشيعة والمتصوفة والاتجاهات الباطنية الإشراقية قد ربطوا بين القول بـ(الظاهر) والفهم العامي من جهة، وبين القول بـ(الباطن) والفهم العالم من جهة أخرى.
وهكذا أصبح في مقابل (التنزيل) هناك (التأويل)، وفي مقابل (الشريعة) هناك (الحقيقة) وفي مقابل (مثالات الحق) هناك (الحق)، وقد أفصح الفارابي عن وجهة نظر فلسفته الفيضية في هذه المسألة حينما قال بأن الآراء التي في الملة هي مجرد (مثالات) للآراء التي في الفلسفة وإن (الآراء النظرية في الملة براهينها في الفلسفة النظرية وتؤخذ من الملة بلا براهين).
ولعل هذا ما يفسر ـ حسب الجابري ـ ذلك العداء المستحكم بين الفقهاء والمتصوفة. إنه عداء يعكس تعارض نظامين معرفيين أحدهما يقوم على الاستدلال؛ أي يربط المعرفة بـ(الحد الأوسط) الذي هو (العلة) عند الفقهاء، والآخر يقوم على (الوصال) أي على الاتصال المباشر و(المعرفة اللدنية).
تلك خلاصة لما أورده الجابري عن العقل المستقيل في الثقافة العربية الإسلامية والذي يرى أنه جزء مهم من تكوين العقل العربي، لكن السؤال الذي يبقى مطروحا هو: هل صدر المؤلف في أحكامه القوية على العقل العربي والثقافة العربية الإسلامية عن استقراء معتبر للمصادر والمراجع أم أنه كأي باحث ظل أسير مراجعه المحدودة، ليبني من مقولات متناثرة في بحر مكتبة التراث حكما بحجم القول إن هذا التراث في جانب كبير منه كان مجرد مثال وصدى لنظريات تراث آخر يختلف معه في المنطلقات والأسس والمسارات والنتائج؟