كيف يمكن أن يتحول السعي العلمي إلى رحلة إيمانية عميقة؟ في هذا الحوار الاستثنائي، يكشف لنا الأكاديمي الياباني أتسوشي أوكودا كمال عن رحلته الفريدة من دراسة القانون في اليابان إلى اعتناق الإسلام في حلب، مستعرضًا كيف قاده البحث العلمي إلى نور الإيمان..

من خلال تجربة مدهشة تمزج بين دراسة الشريعة الإسلامية والغوص في أسرار اللغة العربية، يقدم لنا د. أوكودا رؤى ملهمة عن العلاقة بين اللغة والدين والثقافة، وأهمية الفهم العميق للنصوص بعيدًا عن حدود الترجمة السطحية.

ويعد البروفيسور الياباني أتسوشي أوكودا كمال واحدًا من أبرز الأكاديميين المتخصصين في الشريعة الإسلامية والقانون الإسلامي في اليابان. تميز خلال مسيرته بدراسة الفكر الإسلامي ضمن السياق المعاصر، والعمل على بناء جسور معرفية بين العالمين الإسلامي والياباني.

تخصص البروفيسور أوكودا في دراسة القانون الإسلامي واللغة العربية، وارتكزت جهوده البحثية على تحليل قضايا الفكر الإسلامي، لا سيما تلك المتعلقة بحقوق الإنسان والحوكمة في ضوء الشريعة. عمل أستاذًا في كلية إدارة السياسات بجامعة كيو اليابانية، ومدير برنامج الحوكمة العالمية والاستراتيجية الإقليمية في الجامعة.

تميّزت جهود البروفيسور أوكودا بالجمع بين العمق الشرعي والدراسة الحديثة للظواهر القانونية والاجتماعية في الإسلام. وقد ساهمت أبحاثه في توسيع دائرة الاهتمام بالدراسات الإسلامية في اليابان، مقدّمًا رؤية متوازنة عن الفكر الإسلامي في العالم المعاصر. بالإضافة إلى ذلك، أسهم البروفسور  أوكودا من خلال ترجماته في نقل الدراسات المتعلقة بالشريعة الإسلامية إلى اليابانية، مثل ترجمته لأعمال وائل حلاق حول تطور النظريات الفقهية.

لم تقتصر أنشطته على اليابان، بل امتدت إلى العالم العربي، إذ أسهم في تأسيس مركز التعاون الأكاديمي الياباني في جامعة حلب بسوريا، حيث شغل منصب نائب مدير المركز، مساهما في تعزيز التبادل الأكاديمي والثقافي بين اليابان والعالم الإسلامي.

وللتعرف عليه من قرب، التقى إسلام أون لاين بالبروفسور أوكودا على هامش مشاركته في أعمال (المؤتمر الدولي للاستشراق – الدوحة ) والذي عقد في العاصمة القطرية الدوحة في الفترة 26 – 27 إبريل 2025 م  وأجرى حوارا لكشف بعض تفاصيل هذه الرحلة العلمية والإيمانية.

دكتور أوكودا، متى تعرفت على اللغة العربية؟ كيف كانت البداية مع تعلمها؟

كانت لدي بداية اهتمام بالشريعة الإسلامية.، فقد تخرجت من كلية الحقوق  في اليابان، ولذلك، كنت أبحث في تلك الفترة عن  مفتاح سليم لفهم العالم في المستقبل ووجدته في عالم الشريعة إذا استخدمنا هذه الفكرة بشكل جيد. كنت أؤمن بأن السلام سيحل في العالم من خلال الشريعة الإسلامية. لذلك اخترت الدراسات الإسلامية. وفي ذلك الوقت، قال لي أحد الأساتذة: “يجب أن تدرس اللغة العربية.”

هل كنت تدرس الشريعة الإسلامية أم كنت تدرس القانون؟

درست القانون أولًا.

ثم فكرت أن تدرس الشريعة الإسلامية؟

نعم، لأن من أراد البحث في الشريعة الإسلامية، فيجب عليه تعلم اللغة العربية أولًا، فبدأت بدراسة بسيطة للغة العربية في اليابان على يد أستاذي الدكتور توشيهيكو إيزوتسو (الأستاذ بمعهد الدراسات الثقافية واللغوية بجامعة كيو بطوكيو سابقا) .ولكن لاحقًا، انتقلت إلى سوريا وبالتحديد إلى مدينة حلب في الفترة مابين عام 1993 –  1999 م  لدراسة اللغة العربية والشريعة الإسلامية، وأصول الفقه والعقيدة الإسلامية. كما شاركت أيضا في أنشطة التبادل الثقافي بين اليابان وسوريا حيث كنت المدير الأول للمركز الياباني للتعاون الأكاديمي بجامعة حلب.

هل هناك ما يُسمى بالاستعراب في اليابان؟ وما هو تاريخ وجود اللغة العربية هناك؟ أو بمعنى آخر، متى بدأ الاحتكاك بين العرب واليابانيين تاريخيًا؟

طبعًا. هناك مسلمون يعيشون في اليابان. بعضهم سبق له القيام برحلة الحج مثلا وزيارة البلاد العربية، وهناك قصص كثيرة حول هذا الموضوع. ولكنني أعتقد أن بداية العلاقات الفعلية كانت في السبعينات، عندما بدأت العلاقات التجارية بين اليابان والبلاد العربية. وكثير من رجال الأعمال اليابانيين انتقلوا إلى المنطقة العربية، وعاشوا هناك. وبعضهم أسلم بالفعل. وعلى هذا الأساس، بدأ عدد المسلمين في اليابان بالازدياد تدريجيا.

ما هو الحقل الفكري والعلمي الذي تهتم به في مجال الدراسات العربية والإسلامية؟

مجال اهتمامي هو الشريعة الإسلامية والأحكام الشرعية، وكيفية تطبيقها وآليات الاجتهاد. ولكن قبل ذلك، يجب التركيز على دراسة نظام اللغات. لقد تحدثت في ( المؤتمر الدولي للاستشراق – الدوحة) عن الفرق بين اللغة العربية واللغة اليابانية. وإذا أخذنا هذه الفكرة في الاعتبار، جعلتني اكتشف قيمة اللغة العربية مجددا، ولماذا أنزل الله تعالى القرآن الكريم بهذه اللغة ؟ عندما قمت بالدراسة والمقارنة بين اللغتين، وأصبحت الرؤية أكثر وضوحا بالنسبة لي. وفهمت من هذا الطريق لماذا تحولت للإسلام. طبعًا، كنت قد أسلمت منذ زمن طويل في حلب، ولكن مرة أخرى، وجدت أنني بحاجة إلى فهم أعمق.على سبيل المثال، لماذا نصلي؟ ومن خلال دراسة الجذور اللغوية، فهمت مفهوم “القوام” و”القيام” و”الاستقامة”.

قوام .. كيف اشرح لنا الفكرة؟

قوام، نعم. فالميزان الصرفي: “قام، قيام، قوام، تقويم”، وحتى “مستقيم” و”يوم القيامة“، كلها مشتقة من الجذر ذاته. إذا قرأنا بهذه الطريقة، نفهم أن الإنسان إذا تخلى عن هذا “القيام”، فإنه يسقط في الكبرياء والضلال. ولهذا السبب، نصلي ونضع رؤوسنا على الأرض في خضوع لله. وهذا هو معنى الصلاة الحقيقي.

تعني الخضوع لله ؟

تمامًا. العبودية لله وحده هي الأصل. إذا صلى الإنسان لغير الله، وقع في الخطأ. فالهدف أن يكون الخضوع لله فقط.

اعتنقت الإسلام بمدينة حلب، ولكن قبل ذلك أردت دراسة الشريعة الإسلامية لأنك رأيت أن الحل يكمن في الشريعة؟

نعم، كما قلت سابقا كنت أرى أن حل مشاكل العالم وإحلال السلام في العالم يمكن تحققه عبر مقاصد الشريعة الإسلامية ولذلك توجهت لدراستها.

وماذا كانت معلوماتك عن الشريعة قبل دخول الإسلام؟

كنت أدرسها أكاديميًا. في جامعتي، كان هناك قسم للدراسات الإسلامية. وكان من يعلم  فيه الطلاب اليابانيين. ومن أشهرهم أستاذي الدكتور توشيهيكو إيزوتسو وكذلك الأستاذ كورودا، وهو أستاذ مشهور، قد درسني الشريعة الإسلامية. ودرست اللغة العربية معه سنة كاملة خلال مرحلة الماجستير في كلية الحقوق بجامعة كيو.

ثم ذهبت إلى حلب؟

بعد عملي في قسم دراسات الشرق الأوسط في اليابان تحت إشراف الأستاذ كورودا لمدة ثلاث سنوات تقريبًا، أنتقلت  إلى حلب للدراسة.

ومتى جاءتك الرغبة الحقيقية في اعتناق الإسلام؟

كان ذلك خلال مقابلة ميدانية مع الناس في منطقة ريفية حول حلب. جلست في مسجد صغير، وكان بسيطًا جدًا. بينما كنت أنتظر الناس، حان وقت الصلاة. جاء الإمام وقال كلامًا مؤثرًا: “الكافر أفضل من المشرك. ” أو شيئًا بهذا المعنى لا أتذكر النص بالضبط، وخرجت من المسجد وأتذكر ذلك اليوم حيث كانت درجة الحرارة مرتفعة، ثم فكرت في كلامه : لماذا تحدث الإمام بهذه القوة؟ ففهمت أنني بالنسبة له غريب بسبب مظهري الياباني، ولكن، لماذا أكون غريبًا؟ أدركت أن الإسلام هو الذي يوحدنا. فقررت أن أسلم. بحثت عن أفضل الأساتذة في حلب لدراسة الشريعة وأصول الفقه والعقيدة واللغة العربية. أسلمت بعد ذلك، ثم ذهبت إلى جامعتي وأعلنت إسلامي. فقالوا لي : “ألم تكن مسلمًا من قبل؟”

هل كانوا يظنون أنك مسلم بالفعل لأنك كنت تدرس الشريعة ؟

نعم، كنت قريبًا جدًا بالإيمان والثقافة، ولكن الإسلام الحقيقي شيء آخر.

إذن، كنت تؤمن بفكرة الإسلام من الناحية الثقافية والفكرية قبل الدخول فيه؟

نعم، الحمد لله.

 ما هو واقع الدراسات العربية حاليًا في اليابان؟

واقع الدراسات العربية في اليابان، للأسف، ضعيف بعض الشيء. يجب أن يتطور أكثر. ولكن الجامعات الكبيرة لديها أقسام لدراسة اللغات الأجنبية، ومنها اللغة العربية. وهذا أمر مشجع إلى حد ما.

وماذا تتوقع لمستقبل هذه الدراسات؟

حاليًا نحن نعيش في عصر الذكاء الاصطناعي، عصر الجي بي تي (GPT)، وقد تغيرت طريقة دراسة اللغات فجأة. الآن لم تعد هناك حاجة لترجمة حرفية للنصوص، لأن الحاسوب يستطيع القيام بذلك بسهولة. لذلك أصبح من المهم جدًا التركيز على نظريات مقارنة اللغات ونظمها. مثلاً، إجراء مقارنة بين اللغة العربية واللغة اليابانية أمر مهم جدًا وجميل للغاية. من خلال هذه المقارنة، ويمكننا أن نكتشف أمورًا عميقة في اللغتين.

تقصد أن المقارنة بين اللغة العربية واليابانية تؤدي لاكتشافات عميقة؟

نعم. من خلال الدراسة اكتشفت أن اللغة العربية عميقة جدًا عبر مقارنتها باليابانية، وملاحظة الفروقات الكبيرة. مثلاً إذا درسنا نظام اللغة اليابانية سنفهم تصرفات اليابانيين ولماذا يتصرفون بطريقة معينة. وفي المقابل إذا درس العرب اللغة اليابانية ستساعدهم على اكتشاف نقاط إيجابية جديدة في نظام لغتهم.

هل النظام اللغوي يؤثر على العادات والتقاليد ؟

طبعًا. لذلك إذا فهمنا تمامًا نظام اللغة اليابانية، يمكن لليابانيين أن يفهموا معاني الإسلام بشكل أعمق.

لأن لديهم قيمًا قريبة من قيم الإسلام؟

نعم، على سبيل المثال، عندما نشرح مفهوم “لا إله إلا الله“، نجد أن القلوب اليابانية لا تستوعب هذه الفكرة بسهولة بسبب الحاجز الثقافي الموجود. علينا أولًا أن نتجاوز هذا الحاجز اللغوي ثم ندخل إلى المفاهيم الكبرى.

ما هي أفضل وسيلة لليابانيين للتعرف على الإسلام؟ هل هي عن طريق ترجمة معاني القرآن الكريم؟

حتى لو درسوا آية واحدة فقط، هذا لا بأس به. لكن نصيحتي لهم أن يدرسوا اللغة العربية أولًا. ثم من خلال هذه المعرفة، يحاولون قراءة النصوص مباشرة، لفهم معاني القرآن الكريم. لأن الترجمة وحدها لا تكفي لنقل الفكرة العميقة. الترجمة لا تنقل الجوهر الحقيقي.

يعني الياباني الذي لم يدرس العربية، هل يستطيع أن يفهم الإسلام من خلال الترجمة؟

لا، لا يستطيع أن يفهم الفكرة كاملة. نحن الآن تجاوزنا مرحلة الاعتماد الكامل على الترجمة. يجب أن نقرأ القرآن الكريم بأنفسنا، نفهم معانيه من خلال جذور اللغة. وهذا الفهم العميق يظهر من قلوبنا مباشرة.

ما هي آخر الأبحاث التي أنجزتها؟

حاليًا، نشرت كتابًا بعنوان باب الاجتهاد المناسب في العصر الحالي. والكتاب تم عرضه في هذا المؤتمر العلمي (المؤتمر الدولي للاستشراق – الدوحة) كما لدي كتب كثيرة، والحمد لله.

غلاف كتاب "باب الجهاد" من نشر كيندل، يظهر تصميمًا فنيًا تقليديًا مع شخصيات تاريخية، محاطًا بمكتبة تحتوي على رفوف كتب في الخلفية.
كتاب باب الاجتهاد باللغة اليابانية تأليف د. أتسوشي أوكودا

هل تذكر لنا عناوين بعض هذه المؤلفات؟

أحد كتبي بعنوان “باب الاجتهاد”، يتناول موضوع الشريعة وأصول الفقه والاجتهاد. أيضًا كتبت بحثًا عن مسألة “إغلاق باب الاجتهاد”، وترجمته إلى اللغة اليابانية لمؤلفًه الدكتور وائل حلاق، وكتبت أيضًا عن حقوق الإنسان في الإسلام وهو من تأليفي. كما كتبت دراسات عن العقيدة الإسلامية، والعديد من المواضيع المرتبطة بالشريعة.

وسؤال أخير: ما هو موضوع الورقة العلمية التي شاركتم بها في هذا المؤتمر؟

موضوع الورقة كان عن استشراق الآخر. وعرضت فيها كيفية عرض الانقسام الموجود في الثقافة الإسلامية بين مفهومي “نحن” و”هم”، إذا قرأنا القرآن الكريم كاملا دائما سنجد ثنائيات الخير والشر، وفي النهاية، الهدف هو الوصول إلى صيغة للتعايش في عالم واحد. لكن بعض الناس يسيئون فهم هذه القضايا بسبب اقتطاع أجزاء معينة دون غيرها، ويظنون أن القرآن يحث على الانقسام دائمًا، بينما الحقيقة أن القرآن يدعو إلى التعايش والسلام. لا بد من التعايش. ولكن أحيانًا، يُفهم النص فهمًا خاطئًا، مما يؤدي إلى سوء العلاقات مع الآخرين. لذلك نحن بحاجة إلى تجديد طريقة قراءتنا لآيات القرآن الكريم، لكي نفهمها بشكل أفضل.

وفي أي إطار يتم ذلك التجديد؟ هل في ضوء مقاصد الشريعة أم تفسيرات السلف؟

نعم، نعتمد على المؤلفات والأفكار التفسيرية القديمة، ولكن نقرأها أيضًا في ضوء العصر الحديث. حتى الآن، مع وجود الذكاء الاصطناعي، هناك آفاق جديدة لفهم القرآن الكريم وأحكامه وقيمه. لذلك نحتاج إلى قراءة جديدة تفتح مجالًا لفهم أعمق لمعاني القرآن الكريم.

شكرًا لكم دكتور أتسوشي أوكودا كمال ، بارك الله فيكم.