في مطلع العام، أجرى “إسلام أون لاين” حوارً مطولاً مع الدكتور أحمد العدوي، عن الترجمة وأهميتها ودورها في التفاعل الحضاري، وبعض القضايا المتعلقة بها معرفيًّا وفنيًّا.. ويسعدنا أن نلتقي ثانيةً بالدكتور العدوي، بعد فوزه بـ”جائزة الشيخ زايد للكتاب” في دورتها الـ 16، عن ترجمته “نشأة الإنسانيَّات عند المسلمين وفي الغرب المسيحي” لـ جورج مقدسي.
الترجمة صدرت عام 2021م، من الإنجليزية إلى العربية، عن “مدارات للأبحاث والنشر” بالقاهرة، في ٨٩٦ صفحة، ولقيت ترحيبًا كبيرًا من الباحثين والمهتمين بالشأن الفكري والمتابعين لأعمال جورج مقدسي..
ود. العدوي باحث ومؤرخ مصري، مُتخصِّص في التاريخ الإسلامي . حصَل على الماجستير والدكتوراه في الآداب من قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة. عمل باحثًا ومحاضرًا بجامعتي القاهرة، والأزهر. ويعمل حاليًا أستاذًا مساعدًا بقسم العلوم الإسلامية، كلية الإلهيات بجامعة Çanakkale Onsekiz Mart Üniversitesi (ÇOMÜ) بتركيا. نشر عددًا من الأوراق البحثية في حقلي التاريخ الإسلامي، والتراث العربي. ومن أهم كتبه المنشورة: “الصَّابئة منذ ظهور الإسلام حتى سقوط الخلافة العباسية“. و”الطاعون في العصر الأُموي؛ صفحات مجهولة من تاريخ الخلافة الأموية”. كما ترجم عددًا من الأعمال من أهمها: “الزواج والمال والطلاق في المجتمعات الإسلامية في العصور الوسطى” ليوسف رابوبورت. “جيش الشَّرق، الجنود الفرنسيون في مصر 1798-1801” لتيري كرودي.. فإلى الحوار:
بداية، نهنئكم بالفوز بجائزة الشيخ زايد للكتاب، عن فرع الترجمة.
شكرا جزيلًا… أشكركم جزيل الشكر.
كيف جاءت ملابسات التقدم للجائزة والفوز بها؟
على حد علمي ترشح للجائزة هذا العام 148 كتابًا مترجمًا، كان من بينها كتاب “نشأة الإنسانيَّات عند المسلمين وفي الغرب المسيحي” ، ثم أعلنت لجنة الجائزة في أواخر شهر نوفمبر الماضي عن قائمتها الطويلة التي ضمت 10 أعمال كان من بينها كتاب “نشأة الإنسانيات”. ثم أعلنت لجنة الجائزة عن القائمة القصيرة التي ضمت ثلاثة أعمال في منتصف شهر أبريل الماضي، وكان هو أيضًا على رأسها.
وأخيرًا أعلنت لجنة الجائزة عن فوز “نشأة الإنسانيَّات عند المسلمين وفي الغرب المسيحي” بالجائزة في فرع الترجمة عن هذا العام، قبيل منتصف هذا الشهر. والحمد لله.
ترجمة واضحة سلسة محكمة
ما حيثيات الفوز التي ذكرتها اللجنة القائمة على أمر الجائزة؟
ذكرت اللجنة العلمية في معرض تقييمها للكتاب أن هذه الترجمة “تتسم بالوضوح والسلاسة والضبط المحكم، وتكشف عن فهم المترجم العميق للمفاهيم والمصطلحات التي أجاد في نقلها إلى العربية بأمانة ودقة. ومما يميز هذه الترجمة أنها جاءت خالية من الأخطاء الناتجة عن إساءة فهم دلالات النص الأصلي، أو الوقوع في الترجمة الحرفية التي تفضي عادة إلى الركاكة والغموض. ويُحسب للمترجم أنه برع في خلق التوازن بين الأمانة في إبراز مقاصد النص الأصلي ودلالاته العامة والدقيقة، وبين الحرص الشديد على التقيد بروح العربية وخصائصها الأسلوبية ومعاييرها الجمالية. أما أهمية الكتاب، فتكمن في الجهد العلمي الذي بذله العلامة الراحل جورج مقدسي في تقديم دراسة أكاديمية رصينة، تنهج نهجًا مقارنًا يهدف إلى قراءة أصول النزعة الإنسانية في الحضارة الإسلامية الكلاسيكية وآدابها وثقافاتها، والظروف التي أحاطت بظهورها في العالم المسيحي الغربي”.
إن هذا التقييم من اللجنة العلمية لجائزة الشيخ زايد بمثابة الوسام الذي أضعه على صدري؛ فما ذكرته اللجنة في معرض تقييم الترجمة إنما هي الغاية عند كل مترجم؛ فغاية المترجم أن يقدم نصًّا صحيحًا موثوقًا شديد الولاء لأصله، وفي الوقت نفسه يقدم المترجم مادته بأسلوب عربي جزل لا تعوزه الفصاحة.
وماذا يعنيه لكم هذا الفوز؟
“جائزة الشيخ زايد للكتاب” هي إحدى أكبر الجوائز على صعيد المشهد الثقافي في العالم العربي. والفوز بها يعد شرفًا كبيرًا لأي أديب، أو مترجم، أو كاتب، أو مؤسسة. وأنا أعدها تتويجًا وتكريمًا جاءا مبكرًا- لحسن حظي- لمسيرتي بوصفي مترجمًا.
ولكني أعي في الوقت نفسه أن الفوز بجائزة كبيرة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب، يضع على كاهلي مزيدًا من المسؤولية عن اختياراتي وجودة ترجماتي فيما بعد.
نود أن نعرف كيف جاءت ظروف ترجمة كتاب “نشأة الإنسانيات عند المسلمين وفي الغرب المسيحي”؟
كانت دار “مدارات” قد انتهت من نشر كتاب “نشأة الكليات؛ معاهد العلم عند المسلمين وفي الغرب” لجورج مقدسي، في نشرة جديدة قوبلت على أصلها الإنجليزي مجددًا. وفي هذا التوقيت نفسه كنت قد انتهيت من نشر كتاب “يوميات فقيه حنبلي من القرن الخامس الهجري”؛ وهي يوميات الفقيه الحنبلي أبي علي بن البناء، وكانت بتحقيق وتقديم جورج مقدسي. وصدرت عن مدارات أيضًا. وتلقى القراء كلا العملين بقبول حسن.
ومن ثم كان من الطبيعي أن تولي “مدارات” تراث مقدسي عناية خاصة؛ ومن ثم، اقترح علي الأستاذ أحمد عبد الفتاح- مدير الدار- ترجمة كتاب مقدسي “نشأة الإنسانيات”؛ وهو آخر أعمال مقدسي الكبرى الذي لم يُترجم إلى العربية بعد. ورحبت بذلك على الفور. وبذلت قصارى جهدي في إخراج ترجمة دقيقة لنصه. كما قدمت له مقدمة طويلة، وعلقت عليه مصوّبًا ومستدركًا وشارحًا وموضحًا.
وما مضمون كتاب “نشأة الإنسانيات” ومحاوره؟
درس “نشأة الإنسانيات” ظهور العلوم الإنسانية في الحضارة الإسلامية، والحركة الأدبية وحقولها الرئيسة، وتلك المتفرعة منها، وروادها، ومؤسساتها، ومناهجها.. من منظور مقارن مع النزعة الإنسانية في أوروبا في عصر النهضة الإيطالية. وأقام مقدسي البرهان على وجود تأثير ملحوظ لـ الحضارة الإسلامية وللأدب العربي على نظيره الأوروبي في عصر النهضة.
ويغطي الكتاب ستة قرونٍ تقريبًا، مع ميلٍ إلى التركيز على الفترة الممتدة بين القرنين الثالث والخامس الهجريين/ التاسع والحادي عشر الميلاديين. وينقسم إلى سبعة أبوابٍ، يضم كل منها عدة فصولٍ. وعلى غرار “نشأة الكليات”، كرّس مقدسي الأبواب الستة الأولى للعالم الإسلامي.
فناقش الباب الأول المدرسية في الإسلام، بينما درس الباب الثاني مؤسسات الأدب وتصنيفها. أما الباب الثالث فقد تعرض للتدريس وتنظيم المعارف. بينما عُني الباب الرابع بقضايا التدريس في فروع الأدب الرئيسة. وكذلك اعتنى الباب الخامس بالتدريس أيضًا، ولكن من حيث المناهج المتبعة فيه. وتناول الباب السادس مجتمع الأدباء (الإنسانيين). أما الباب السابع فهو دراسةٌ مقارنةٌ بين الأدب في السياق الإسلامي، وبين النزعة الإنسانية في سياق أوروبا المسيحية. وأنهى المؤلف هذا الكتاب بخاتمةٍ بديعةٍ تضمنت خلاصة ما توصل إليه.
فهم الترجمة العميق
هل ثمة ترابط بين “نشأة الكليات” و”نشأة الإنسانيات”؟
نعم بكل تأكيد. ومع ذلك فإن “نشأة الإنسانيَّات عند المسلمين وفي الغرب المسيحي” لا يعد تتمةً لكتاب “نشأة الكليات”، كما أنه ليس ذيلاً عليه، بل هو كتابٌ قائمٌ بذاته، وإن تقاطع مع الكتاب المشار إليه آنفًا في نقاطٍ عديدة.. كما تشابها من جهة التنظيم إلى حد كبيرٍ.
فقد درس الكتاب الأول- أعني “نشأة الكليات”- الحركة المدرسية في الإسلام والغرب المسيحي، بينما عُني كتاب “”نشأة الإنسانيَّات عند المسلمين وفي الغرب المسيحي” بدراسة الحركة الإنسانية في الإسلام والغرب من منظورٍ مقارن. ومن ثم فكلا الكتابين يكمل كل منهما الآخر. ويعود ذلك إلى الارتباط الوثيق بين الحركة المدرسية والإنسانية في الإسلام والغرب المسيحي على حد سواء، وإلى التأثير الذي مارسته كل منهما على الأخرى. ومن ثم، فلا عجب أن أحال مؤلف هذا الكتاب بين الفينة والأخرى على كتابه “نشأة الكليات”، بل إنه لم ير مندوحةً عن أن يستهل هذا الكتاب ببابٍ تناول فيه النزعة المدرسية (Scholasticism) في الإسلام، قبل أن يدلف إلى موضوع هذا الكتاب الرئيس، نشأة العلوم الإنسانية (Humanities) في الإسلام والغرب المسيحي.
وقدم مقدسي في كلا الكتابين معلومات وتحليلات تمتاز بالثراء، والجدة، والأصالة، عن النظام التعليمي في الحضارة الإسلامية، منذ ظهور الإسلام إلى مستهل القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي. ولما كانت كلتا الدراستين أصيلتين وغير مسبوقتين، فسيلحظ القارئ لهذين الكتابين أن جل المادة العلمية الواردة في كليهما مستقاةٌ من مصادرها الأولية مباشرةً.
كما سلط كلا الكتابين ضوءًا كثيفًا على تطور التعليم خلال القرون السبعة الأولى من تاريخ الإسلام. لكن المؤلف نوه في مقدمتي كلا الكتابين عن أنه لم يهدف قط إلى إجراء مسحٍ عام للتربية في الإسلام. بل رأى الاقتصار في “نشأة الكليات” على دراسة “الحركة المدرسية”؛ أي التعليم المدرسي في الإسلام الكلاسيكي، بما في ذلك نشأة تلك الحركة، ومؤسساتها التعليمية، ومناهجها الدراسية، وإجازة التدريس والإفتاء، والمنهج المدرسي الصارم المؤدي إلى هذه الإجازة. وبالمثل فإن كتاب “نشأة الإنسانيَّات عند المسلمين وفي الغرب المسيحي” إنما هو دراسة عن الحركة الأدبية وحقولها الرئيسة، وتلك المتفرعة منها، وروادها، ومؤسساتها، ومناهجها، ولا سيما “الأمالي”، وتأكيد تلك الحركة على الكتب التي صنفت مستهدفةً أولئك الذين علموا أنفسهم بأنفسهم، فيما يمكن أن نسميه بمصطلحات عصرنا “التعلم الذاتي“.
وجاءت مقاربة مقدسي في كلتا الدراستين- كما أوضح ذلك بجلاءٍ في كلتا مقدمتيه اللتين وضعهما لهذين الكتابين- موحدةً، تقضي بأن التيارات الفكرية- على نحوٍ عام- يمكن فهمها بالقدر الذي تدرس به القوى التي أثمرتها؛ والمنتجات الفكرية التي انبثقت عنها، ومناهج التدريس والتأليف والتصنيف في تفاصيلها الجوهرية.
كذلك فإن لكلتا الدراستين جانبًا آسرًا، وهو ذلك الباب الخاتم في كليهما، فكلاهما درس الظاهرة عينها: وهي أثر الإسلام في المدرسية (Scholasticism) في السياق الأوروبي في نشأة الكليات، وأثر الإسلام في الإنسانية (Humanism) في السياق نفسه في نشأة الإنسانيات. حيث خلص مقدسي إلى أن النظام التعليمي المسمى “المدرسي” في الغرب المسيحي استعير بالكلية من الإسلام، وربما خضع لبعض التغييرات من باب التكيف مع بيئته الجديدة التي زرع فيها. ومن ثم فإن المؤسسات التعليمية المسماة بـ(الكليات Colleges) قد استعيرت أوروبيًّا من النظام العام لمدارس الفقه في الإسلام السني.
“مقدسي” والجهد العلمي الرصين
ونشد مقدسي في هذا الكتاب فهمًا للتاريخ على نحوٍ أفضل ابتداءً، ومزيدًا من الاستيعاب للظواهر التاريخية المتعلقة بموضوعه، ووضعها في سياقها. والأهم من ذلك، فهم الحضارة الغربية المسيحية على نحوٍ أفضل من ذي قبل. ومن ثم فقد أعاد مقدسي التنويه بأهمية الاستشراق– في سياق التخصصات والانشغالات الفكرية أوروبيًّا- متجاوزًا النظرة التقليدية إليه بوصفه تخصصًا فرعيًّا يهدف إلى فهم الآخر، لما قدمه بوصفه وسيلةً لفهم الذات.
من هذه الزوايا حظي كلا العملين بشهرةٍ واسعةٍ في الغرب، واكتسبا معًا أهميةً بالغةً في سياقهما بالنسبة لكلتا الحضارتين الإسلامية والمسيحية الأوروبية على حد سواء. وعلى هذا النحو نبهت أعمال مقدسي، بوجه عام، المؤرخين الأوروبيين إلى افتقار المكتبة التاريخية الغربية إلى دراساتٍ مقارنةٍ بين الإسلام والغرب المسيحي، وكذلك إلى أن هذا الافتقار كان سببًا في التشويش على كثيرٍ من الحقائق التاريخية، ومن جملتها: أصول الجامعات الأوروبية، والعوامل التي أثرت في نشأة القانون الإنجليزي في طوره المبكر خاصةً، ومعرفة أوروبا بالنقابات وتطورها ثمة. والأهم من ذلك كله جذور النهضة الإيطالية.
وكيف ترون الإضافة المعرفية التي حققها كتاب “الإنسانيات”؟
أظن أن صدور الترجمة العربية لكتاب “نشأة الإنسانيات” هو حدث ثقافي في حد ذاته. فقد وصفت هذا الكتاب في مقدمتي بأنه كتاب نفيسٌ، لم يؤلف مثله، فهو نمط وحده. وسيرى القارئ له حجم الجهد الهائل الذي بذله العلامة مقدسي في هذا الكتاب. ومن ثم فهو إضافة حقيقية للمكتبة العربية في بابه.
هل لكم مآخذ على الكتاب؟ وهل حرصتم على تسجيلها بالمقدمة؟
نعم بطبيعة الحال، فكل يؤخذ منه ويُرد عليه. وقد قدمت لهذا الكتاب مقدمة مسهبة، تناولت فيها بعض النقدات التي وجهت لمقدسي في نظريتيه بشأن نشأة الكليات، ونشأة الإنسانيات. كذلك علقت على مادة الكتاب مصححًا، وناقدًا في عدد لا بأس به من المواضع.
ما الترجمة القادمة لكم؟
أنا مشغول هذه الأيام بترجمة كتاب بيتر فرانكوبان “طريق الحرير”؛ وآمل أن يرى هذا الكتاب النور في أواخر هذا العام، وأن يتقبله القارئ العربي بقبول حسن.