تناولت في مقالة سابقة موضوع الإنتاجية والكفاءة والفاعلية كمقاييس للأداء، وأن الفلاح كمقياس للأداء أشمل من الكفاءة والفاعلية؛ لأن هذه المقاييس مادية بحتة. وقبل التطرق للنقاط التي يرتكز عليها المنهج الإسلامي في الإنتاجية ، تراءى لي العودة إلى موضوع إنتاجية عنصر العمل؛ حيث يتعين عند تناول أي مشكلة اقتصادية؛ الإشارة إلى أمر هام، له تأثيره القوي على فهم الواقع، وهو أن العلاقات بين المتغيرات التي تتحكم في سلوك الظاهرة الاقتصادية لا ترتبط بعلاقات خطية مباشرة مع بعضها البعض، بل ترتبط بعلاقات دائرية معقدة، ويطلق عليها التسبب الدائري   (Causation Circular )  ؛ بحيث أن كل متغير يكون سبباً ونتيجة في نفس الوقت لأكثر من متغير آخر.

والواقع أن هذه الظاهرة رغم وجودها في الاقتصاديات المتقدمة والمتخلفة؛ إلا أن خصائصها السلبية في الاقتصاديات المتخلفة؛ تجعل منها سبباً رئيساً لاستمرار مشكلة التخلف.. وتعتبر إنتاجية العمل من أهم الموضوعات التي ترتبط ارتباطاً عضوياً بالكثير من المشاكل الاقتصادية، وأنه عند علاج مشكلة إنتاجية عنصر العمل لا يكون وجود لهذه المشاكل، وإن وجد بعضها سيكون لمرحلة مؤقتة وسيكون العلاج ميسراً.

إنتاجية عناصر الإنتاج

يؤدي انخفاض الإنتاجية إلى زيادة الأسعار وانخفاض الصادرات وزيادة الواردات، وبالتالي زيادة العجز التجاري، وتدهور في ميزان المدفوعات، وزيادة الطلب على القروض الأجنبية. وينعكس الوضع عموماً على انخفاض قيمة العملة الوطنية، وانخفاض معدلات الادخار، وانخفاض معدلات الاستثمار، وانخفاض الناتج القومي.

   ولا يمكن التأثير في الناتج القومي أو العمالة تأثيراً إيجابياً أو سلبياً، إلا عن طريق التأثير في نفقة الإنتاج، أو في أحد عناصر الطلب. ونفقة الإنتاج تتوقف على كمية ما يحوزه المجتمع من عوامل الإنتاج (الأرض أو الموارد الطبيعية، والعمل، ورأس المال، وكفاءة الإدارة والتنظيم، والتكنولوجي أو الفن الإنتاجي)، وعلى مستوى الإنتاجية لكل من هذه العوامل.

   أما الطلب فهو إما استهلاك خاص، أو استهلاك حكومي، أو استثمار، أو الطلب على الصادرات؛ ولذلك يعتبر الاستيراد تسرباً من إجمالي الطلب. ويمكن القول أن الطلب الكلي = الاستهلاك الخاص + الاستهلاك الحكومي + الاستثمار + الصادرات – الواردات. وهذه هي عناصر الطلب.

أي أن زيادة الناتج القومي يتوقف على ما تحوزه كل دولة من موارد طبيعية، أو زيادة كمية رأس المال، والعمل، أو زيادة كفاءة الإدارة الاقتصادية، أو زيادة إنتاجية هذه العوامل، أو زيادة الطلب الوطني والأجنبي، أو على بعض تلك العوامل أو عليها مجتمعة. والحقيقة أن جانب العرض (أو النفقات) يعتبر العامل الحاسم في زيادة الإنتاج والعمالة أو تخفيضهما، ويطلق عليه اسم

 “اقتصاديات العرض” (Supply-side Economics).

إنتاجية العمل

في جانب العرض (أو النفقات)؛ نجد علاقة كبيرة بين الإنتاجية من ناحية والعمالة والتنمية من ناحية أخرى. وقد تميزت العقود الأخيرة بالاهتمام بعنصر العمل؛ باعتباره من أهم عناصر الإنتاج، ولا يمكن لبقية العناصر أن تُستَغل بدون العنصر البشري.

الإنتاجية ( Productivity ) هي مقياس للأداء؛ عن طريق قياس كفاءة وفاعلية استخدام الموارد، ويعبر عنها بنسبة المخرجات إلى المدخلات، وزيادة إنتاجية العمل  (Labor productivity) يحتاج إلى تطوير التعليم والتدريب للعنصر البشري. كما أن تحسين أحوال العمالة بشكل عام، وتوفير البيئة المناسبة يؤدي إلى زيادة الإنتاج والارتقاء بالتفكير والإبداع والابتكار؛ وبالتالي يؤدي إلى ارتفاع الإنتاجية وزيادة نمو الناتج القومي وتحقيق التنمية الشاملة.

دور الدولة في ظل اقتصاديات السوق وتأثيره على الإنتاجية

إن كفاءة الإدارة الاقتصادية للدولة في ظل اقتصاديات السوق تلعب الدور الرئيس في التأثير على الناتج القومي والعمالة؛ ونضرب لذلك مثالين؛ هما:

الأول: تؤدي عملية الخصخصة وسياسة تجميد القطاع العام إلى أن يتم بيعه إلى القطاع الخاص إلى تعطيل طاقاته الإنتاجية وتخلف إنتاجيته؛ بسبب توقف استثمارات القطاع العام وتوقف تحديثه وتوسيعه، وبالتالي عدم قدرته على تحقيق فائض، وزيادة خسارة الكثير من وحداته.

 والثانية: نشاط الشركات متعددة الجنسية، فقد أصبح من الصعب أن يعرف مصدر إنتاج سلعة معينة؛ حيث يمكن لشركة عملاقة أن تقوم بإغلاق مصنعها في دولة لكي تفتح مصنعاً بديلاً في دولة أخرى، إذا رأت أن مستوى الأجور أو معدلات الضرائب في دولة أنسب لها من دولة أخرى، ولهذا السبب زادت معدلات البطالة في بعض الدول. وبالتالي فإن تحول النظرية الاقتصادية مرة أخرى إلى العرض (أي أن النفقات هي العامل الحاسم في زيادة الإنتاج والعمالة) بدلاً من الطلب له علاقة بالشركات متعددة الجنسية والتمكين لها؛ على حساب الإنتاجية والعمل.

الإعمار في المنهج الإسلامي

استخدم القرآن الكريم مصطلح الإعمار والإصلاح والتمكين والعمران؛ كدلالة على زيادة الإنتاج و التنمية. قال الله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود: 61). وعكسها الإفساد في الأرض، ولم يستخدم القرآن الكريم مصطلح التخلف؛ وهو عكس التنمية، أما مصطلح الإفساد في الأرض فهو إزالة ما في الأموال (الموارد) من صلاحية ونفع، واستخدام الفساد كمصطلح يعني سوء استخدام الموارد.

العمل هو العنصر الأول في عمارة الأرض التي استخلف الله فيها الإنسان، وهو وسيلة التملك ووسيلة التنمية أو الإعمار، سواء عمل الجسم أو الفكر. وتنمية الثروة تكون نتيجة العمل. وفي مجال إدارة العنصر البشري في ظل الإسلام، يجب على العامل التحلي بالقيم الأخلاقية التي يكتمل بها إيمان المسلم؛ وهي: الصدق – الوفاء – الأمانة – الإخلاص – القوة – التكاتف والعمل في جماعة – إعمال العقل واستثمار العلم – إدارة الوقت. قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 79). {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة:7-8).

وكما أن العمل في الإسلام مرتبط بالقيم الإيمانية والأخلاقية، فإن تحسين مستوى معيشة العامل هدف للنظام الاقتصادي الإسلامي؛ لأن عملية التنمية بالإنسان وللإنسان. ويوفر المنهج الإسلامي المنطلقات الصحيحة للممارسات التي تهدف إلى تنسيق جهود الموارد البشرية وتوجيهها وإرشادها.

يقول رسول الله : “أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ(متفق عليه).  

تطبيق المنهج الإسلامي لمعالجة مشكلات الإنتاجية والعمالة

يركز المنهج الإسلامي في الإنتاجية والعمالة على ما يلي:

(1) الاهتمام بإعمار الإنسان، فقد تأسس المنهج الإسلامي على ضرورة بناء الإنسان أو “إعمار الإنسان”؛ جنباً إلى جنب مع بناء المجتمع وإعمار الأرض؛ لأن إعمار الإنسان شرط ضروري لتحقيق إعمار الأرض.

(2) الاهتمام بالإنسان العامل، اختياراً وإعداداً وتدريباً وتطويراً، وضرورة بنائه إيمانياً وخُلقياً وسلوكياً وفنياً.

(3) الحفز والتشجيع، والقيادة والتوجيه، والمساندة والرعاية…إلخ.

(4) التقويم العادل والموضوعي للأداء.

(5) العمل على حل قضايا العمل وانخفاض الإنتاجية بالتعاون المشترك بين الدول الإسلامية.

ويكون ذلك بالأساليب الآتية:

(1) نشر الوعي الإسلامي بين فئات العاملين وتعريفهم بحقوقهم وواجباتهم.

(2) تطهير القوانين والنظم الخاصة بالعمل والعمال والأجور من كل ما يسبب الظلم والقهر.

(3) الاهتمام برفع الكفاءات الفنية ومحاولة تنميتها بالأساليب المعاصرة.

(4) استنباط أساليب الحوافز التي تشجع العاملين على زيادة جهودهم والتي تراعى تحقيق العدالة بينهم.

(5) التعاون بين الدول الإسلامية في حل قضايا العمل؛ يجب أن يكون هدفاَ؛ مصداقاً لقول الله عز وجل: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} ؛ حيث أن لدى الدول الإسلامية طاقة بشرية هائلة إلى جانب تمتعها بالقوة السياسية والاقتصادية.

(6) توجد مستويات عند تناول موضوع إنتاجية العمل وعلاقته بالتنمية الشاملة، وهي على مستوى الفرد، وعلى مستوى منظمات الأعمال، وعلى مستوى المجتمع.

ويهدف المنهج الإسلامي في التنمية إلى زيادة إنتاجية العمل في إطار تحقيق الفلاح في الدنيا والآخرة؛ كمقياس للأداء.