جاءت هذه الجملة ضمن الآية الثالثة بسورة النساء، المبينة مشروعية التعدد بشروطه، قال تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلك أدنى ألا تعولوا } . ومعناها: يجوز لكم الزواج من النساء مثنى وثلاث ورباع؛ بشرط العدل، ولو خفتم عدم العدل بينهن فعليكم الاكتفاء بواحدة، أو الإكثار من السراري. إذ الاقتصار على الزوج الواحدة أو السراري يُعينكم على أن لا تعولوا. وتفسير “ألا تعولوا” كما جاء في كتب التفاسير المعتمدة هو:
- أن لا تجوروا، وهو المعروف وقول جمهور المفسرين. وعليه، فالمعنى: الاقتصار على الزوج الواحدة أو السراري يُعينكم على أن لا تظلموا. ومعنى العول هنا الميل عن العدل إلى الظلم. ولن يكون هذا التفسير محلّ حديثنا، إذ لا إشكال عليه وهو المشهور، وأول ما يقف عليه طالب العلم وأي باحث.
- أن لا تفقروا: وذلك أن كثرة العيال مظنة ثقل النفقة التي هي مظنة الفقر وعدم العيش في البحبوحة ورغد العيش. والعول لغة ويقال العيل في لغة أخرى –وسيأتي بيانه-. ويأتي العول أو العيل بمعنى الفقر، مثل قوله تعالى: “ووجدك عائلا فأغنى” بمعنى فقيرا محتاجاً فأغناك وكفاك. ونظيره أيضا: “وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله” وإن خفتم فقراً. والمعنى: الاقتصار على الزوج الواحدة أو السراري يُعينكم على أن لا تفقروا. يقول الطبري بعد أن ذكر المعنى المشهور: وأما من الحاجة، فإنما يقال:”عال الرجل عَيْلة”، وذلك إذا احتاج. ونقل الطبري أثرا في الباب فقال: قال ابن زيد:”ذلك أدنى ألا تعولوا”، ذلك أقل لنفقتك، الواحدة أقل من ثنتين وثلاث وأربع، وجاريتُك أهون نفقة من حُرة “أن لا تعولوا”، أهون عليك في العيال. جاء في كتاب معرفة السنن والآثار للإمام البيهقي: “قال بعض أهل التفسير: هو مشتق من قول الفريضة إذا كثرت سهامها فقصرت عن الوفاء بحقوق دون الميراث. فيشبه أن يكون قوله: ( ذَلِكَ أَدْنى أَلاًّ تَعْولُواْ) أي لا تكثروا ما يلزمكم من النفقة فيقصر عن الوفاء بجميع حقوق نسائكم. بلغني عن ابن الأنباري أنه ذهب إلى هذا المعنى”.
- أن لا يكثر عيالكم أو أن لا يكثر من تعولون. وهذا يرجع إلى المعنى السابق. والمعنى بهذا: الاقتصار على الزوج الواحدة أو السراري يُعينكم على أن لا تُثْقلوا كواهلكم بنفقة هؤلاء العيال. فتحتاجون معه إلى نفقات أكبر.
جاء في السنن الصغرى أن الشافعي قال: (ألا تعولوا) ! أي لا يكثر من تعولوا، إذا اقتصر المرء على امرأة واحدة، وإن أباح له اكثر منها. قلت -صاحب السنن- : وهذا تفسير قد رويناه عن زيد بن أسلم، ورواه أبو عمر الزاهد غلام ثعلب، عن ثعلب.
ويقول ابن كثير: قوله: { ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا } قال بعضهم: أدنى ألا تكثر عائلتكم. قاله زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعي، رحمهم الله، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أي فقرًا {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } [التوبة: 28] وقال الشاعر :
فما يَدري الفقير متى غناه … ومَا يَدرِي الغَنيُّ متى يعيل …
تقول العرب: عال الرجل يعيل عَيْلة، إذا افتقر.
ويلاحظ هنا أن ابن كثير جعل التفسيرين تفسيرا واحدا؛ للعلاقة الطردية بينهما.
إشكالات تفسير الجملة بألا تفقروا، وبألا يكثر عيالكم فتفقروا:
من الإشكالات التي أوردها بعض المفسرين على هذين التفسيرين، ما يأتي:
الإشكالية الأولى: لو الأمر متعلق بكثرة العيال لما أجاز القرآن الإكثار من السراري، إذ هو أيضا مظنة كثرة العيال: يقول ابن كثير في هذا: “ولكن في هذا التفسير ها هنا نظر؛ فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر، كذلك يخشى من تعداد السراري أيضاً”. ويقول الشعراوي: وبعض الناس يقول : { أدنى أَلاَّ تَعُولُوا } أي ألا تكثر ذريتهم وعيالهم . ونقول لهم : إن كان كذلك فالحق أباح ما ملكت اليمين ، وبذلك يكون السبب في وجود العيال قد اتسع أكثر.
وقد ناقش فخر الدين الرازي هذه الإشكالية في تفسيره فقال: “جوابه من وجهين:
الأول : الجواري إذا كثرن فله أن يكلّفهن الكسب ، وإذا اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا، وحينئذ تقل العيال أما اذا كانت المرأة حرة لم يكن الأمر كذلك فظهر الفرق.
الثاني: أن المرأة اذا كانت مملوكة فاذا عجز المولى عن الانفاق عليها باعها وتخلص منها، أما اذا كانت حرة فلا بد له من الانفاق عليها، والعرف يدل على أن الزوج ما دام يمسك الزوجة فإنها لا تطالبه بالمهر، فاذا حاول طلاقها طالبته بالمهر فيقع الزوج في المحنة.
وأضاف أبو السعود في تفسيره وجها آخر في مناقشة الإشكالية فقال: “التسرى مظنة قلة العيال مع جواز الاستكثار من السرارى، لأنه يجوز العزل عنهن بغير رضاهن ولا كذلك المهائر”.
الإشكالية الثانية: لو صح هذين النفسيرين لذهبَ إليه الجمهور، ولقال به علماء السلف قبل الإمام الشافعي:
ردّ عليها الرازي وملخصه أنه لم ينقل عن الشافعي رحمة الله عليه أنه طعن في قول المفسرين، ولكنه ذكر فيه وجها آخر، وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها. ثم من الذي قال بأن هذا الوجه الذي ذكره الشافعي لم يذكره واحد من الصحابة والتابعين، وكيف لا نقول ذلك، ومن المشهور أن طاوساً كان يقرأ: ذلك أدنى أن لا تعيلوا، واذا ثبت أن المتقدمين كانوا قد جعلوا هذا الوجه قراءة، فبأن يجعلوه تفسيرا كان أولى؟!
وقد ناصر البغوي أيضا هذا الرأي، إذ قال: ” وقال أبو حاتم: كان الشافعي رضي الله عنه أعلم بلسان العرب منّا ولعله لغة، ويقال: هي لغة حمير، وقرأ طلحة بن مصرف {أن لا تعيلوا}”.
الإشكالية الثالثة: اللغة لا تسوّغ تفسير “تعولوا” بتفقروا، ولو أريد معنى الفقر لقيل “تعيلوا” بالياء لا بالواو:
تًناقَشٌ هذه الإشكالية بعموم الرد على الإشكالية الثانية، فوجود قراءة بهذا تأييد لوجه لغوي، كما ذكر الرازي والبغوي.
وجاء في كتاب معرفة السنن والآثار للإمام البيهقي، “قال أحمد : قد روينا هذا التفسير عن زيد بن أسلم… وعن ثعلب أيضا، وقال ثعلب: “كلام الشافعي صحيح سمعت أبا العباس ثعلب يقول يأخذون على الشافعي وهو من بيت اللغة، يجب أن يؤخذ عنه”.
ويقول الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن: ” الشافعي من أدرى الناس باللغة العربية، ولأن عال بمعنى كثر عياله لغة حمير، وقرأ الآية طلحة بن مصرف “ألا تعيلوا” بضم التاء من أعال إذا كثر عياله على اللغة المشهورة”.
أخيرا، يتبين من هذا التفسير –وإن ذهبت إلى أنه مرجوح- أن القولَ بأن كثرة العيال يثقل الكاهل واقعٌ وسنة كونية، والقول به وتنبيه الناس له لا يتعارض مع مسألة أن الله هو الرازق. ما بالك لو أن هذا الوجه التفسيري هو الأرجح، فقد ذكر أكثر من مفسر أن الوجه الذي ذكره الشافعي أرجح، لأنه لو حمل على الجور –تفسير الجمهور- لكان تكراراً لأنه فهم ذلك من قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا} أما إذا حملناه على ما ذكره الشافعي لم يلزم التكرار فكان أولى.