أولا سر وحدة الشخصية في مركب الثنائية العنصرية : حينما نقرأ القرآن الكريم والأحاديث النبوية نجد أن النصوص المحددة لطبيعة الشخصية الإنسانية قد تنحو إلى اعتبار الإنسان كائنا مركبا من عنصرين مختلفين في طبيعتهما: أحدهما يغلب عليه الارتقاء والتطلع إلى الآفاق، بل إن وجوده قد تم علويا في عالم ليس من جنس عالم الحس والمرئي من الكائنات الدنيوية، وهذا هو الذي يسمى بالروح.
أما العنصر الثاني: والمسمى بالجسد فهو ذلك الذي يغلب عليه طابع التثاقل إلى الأرض والركون نحو الأسفل ارتباطا بمادتها وانجذابا نحو عنصرها، لأنه مخلوق منها ولا يستطيع مبارحتها إلا عرضا وبواسطة تطلع العنصر الأول الذي من طبعه التطلع إلى الأعلى، ولهذا يلاحظ عند مفارقة الروح للجسد بالموت أن هذا الأخير قد يتشبث بالأرض التصاقا بل تحللا وذوبانا بعناصرها.
ولقد صرح القرآن الكريم بثلاث صور يمكن أن نعتبرها عناصر أساسية لتحديد مناهج معرفة النفس : وهي عنصر الروح وعنصر الجسد، وعنصر الروح متصلا بالجسد.
فالعنصر الأول وهو اعتبار الجوهر الإنساني المعبر عنه بالروح ، قد يدخل في حكم استحالة أو صعوبة معرفته من جهة ماهيته،وذلك للإضافة الخاصة التي يتميز بها وجوده وخلقه. ويتجلى هذا الحكم في قول الله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا } (الإسراء : 85) . وكذلك قوله تعالى : { مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا } (الكهف :51)، فالآية الأولى كما يروي البخاري عن أسباب نزولها في صحيحه :”عن علقمة عن عبد الله قال: بينما أنا أمشي مع النبي ﷺ في خربة المدينة وهو يتوكأ على عسيب معه، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح، وقال بعضهم لا تسألوه لا يجيء بشيء تكرهونه، فقال بعضهم: لنسأله.فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم: ما الروح ؟ فسكت فقلت:إنه يوحى إليه، فقمت. فلما انجلى عنه فقال : { ويسألونك عن الروح ، قل الروح من أمر ربي وما أوتوا من العلم إلا قليلا } قال الأعمش هكذا في قراءتنا “(رواه البخاري في كتاب الإيمان) .
وهذا الحديث المبين لأسباب نزول الآية يحدد لنا المقصد منها وبعدها، إذ أن السؤال الذي طرحه اليهود عن الروح قد جاء في معرض الاستفزاز والتعجيز بأسئلة ليست من جنس التعريف اللغوي والصياغة اللفظية، وذلك لأنهم سألوا معرفة الماهية الروحية، إذ استعملوا “ما “كأداة استفهام ، ومعلوم أن الماهية قد يسأل عنها في غالب الأحيان بما،وإذا كانت (ما) تفيدها فسيكون من اللازم توصيلها إلى المستفسر، وهذا يتطلب الاندماج بالماهية اندماجا ذاتيا قد يصير معها المدرِك هو عين المدرَك! وهذا لا يتم إلا إذا كانت الذات المدركة مستقلة عن أية إضافة أو تركيب أو ما إلى ذلك.
وبما أن الروح مركبة مع البدن بالعطف والإضافة، وبما أنها محدثة بالإضافة العليا وهي قول الله تعالى : { قل الروح من أمر ربي } (الإسراء : 85) فإن إدراكها لا يتم إلا عن طريق الإضافة العليا -أي بإلهام من الله تعالى وتحقيق منه مباشرة-أو عن طريق قنوات الجسد الحسية والعقلية والتي هي دون مستوى الإدراك الروحي الأرقى والأدق !.
ولهذا فقد جاء الخطاب صريحا ليبين هذا الافتقار الذاتي للإنسان إلى تحصيل العلم بالماهية،لأنه مفتقر أصلا إلى تعليم من الله تعالى الواهب للإدراك والمعرفة الصحيحة،كما أنه إذا وكل الإنسان إلى ذاته المركبة بالإضافة والعطف ، حيث يمتزج فيها الروحي بالجسدي ، فإن قنوات الإدراك عنده لن تكون على مستوى التجريد الذي يفسح المجال للروح بأن تدرك ماهية ذاتها بذاتها.
ولهذا فلو كانت الروح مدركة لماهية ذاتها لما كان هناك سؤال في الماهية أصلا، فيكون أن تحصيل العلم بها يبقى من اختصاص الله تعالى الذي يهب علمه لمن يشاء بحسب استعداده له وتأهله لتقبله {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } (الإسراء : 85).
ثانيا التكوين الإنساني ومراحل الشعور بالذات : هذا الافتقار إلى تحصيل إدراك ماهية الذات ستبينه الآية الثانية في قول الله تعالى، { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا }(الكهف :51)، والتي فيها الدليل القاطع على أن الإنسان لا يمكن أن يسبر حقيقة ذاته إلا بأمر من الله تعالى وإذن منه لأنه أعلم بخلقه { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } (الملك :14) . كما أن الآية ستركز أساسا على واقع الإنسان الوجودي والتكويني لأنه في الحقيقة لم يدرك مراحل تطوره ولا متى تكونت الخلية الأولى لذاته الجسدية بله عنصره الروحي الوارد بالأمر الإلهي المباشر!
وبما أنه قد كان غائبا وجوديا شعوريا وإدراكيا عن مراحل تكوينه فإنه سيكون عاجزا عن معرفة كنه ذاته وتقلباتها في مراحل النمو والتذكر والنسيان وما إلى ذلك، ولهذا فالمرحلة ما بعد وعيه تبقى دائما خاضعة لما قبله في عدة أشياء وقد تتحكم في سلوكه لا شعوريا سواء روحيا أو جسديا، لكنه مع ذلك قد يكون مسئولا عن نتائجه للخصوصية الإدراكية النسبية التي وهبها الله للإنسان في طوره العادي. وكصورة لهذه المراحل التي لا يعرف الإنسان منها شيئا سوى ما يقرره الشرع من حقائق، سيكتشف بعضا منها فيما بعد ما يدل عليها قول الله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } (المؤمنون : 12 – 14) .
وكذلك ما نجده في الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق قال :”إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم علقه مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك،ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع: برزقه وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح فوالله إن أحدكم -أو الرجل- ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراعين أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها”(رواه البخاري)، فالمراحل التكوينية المتضمنة في القرآن والحديث لا يدرك الإنسان أثناءها شيئا،فهو من حيث تكوين بدنه لم يعرف كيف جمع في بطن أمه أربعين يوما،ثم صار علقة ثم مضغة مثل ذلك.
أما تكوينه الروحي فالنفخة هي بدورها سر لا يعلمه إلا الله تعالى، وظاهر النص الحديثي يشير إلى أن الوجود الجسدي هو المفتقر إلى الوجود الروحي وليس العكس،لأن تكوين الجسد قد تم على مراحل مركبة خاضعة للزمان والمكان، بينما التكوين الروحي ليس فيه سوى مرحلة واحدة قد تمثلت في نفخ الروح ، الله أعلم بسره.
وأمام هذا التقرير القرآني والحديثي عن مراحل التكوين الإنساني يطرح سؤال وهو: أيهما أسبق إلى الوجود هل الروح أم الجسد؟ ثم هل الروح يمكن أن توجد مستقلة عن الجسد مع احتفاظها بالإدراك والشعور أم العكس، أي: هل يمكن للجسد أن يستمر في الحياة مع غياب الروح ؟.
ففيما يخص الجسد نجد الدلائل قطعية على أنه لا استمرارية لحياة جسد دون روح، بدليل وجود الموت الذي يلاحق كل المخلوقات الحية بما فيها الإنسان المركب من روح وجسد. فالجسد قد يكون موجودا بكل عناصره المؤهلة له للحياة ، غير أنه لا يستطيع أن يقوم بوظائفه إلا بوجود الروح، مصداقا لقول الله تعالى : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ *فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (ص : 71 -72). فلا قيمة لجسد رغم ما يحتويه من أعضاء وغرائز وظيفية إلا بوجود الروح المعطي الرئيسي للشعور بوحدة الذات وبالإنِّية المصرفة للبدن.
وحينما نقول بوحدة الذات ففيه الإشارة إلى عدم قابلية التركيب في الماهية الروحية المجردة، وبهذا تخالف طبيعة الروح طبيعة الجسد الذي تم خلقه على مراحل مضافة ومتراكبة. فقد يبتر عضو جسدي من الإنسان ومع ذلك يبقى الإنسان ذاتا واحدة لا ينقص من شعورها بذاتها شيء،بينما الجسد من حيث النظر يكون قد بتر.
أما فيما يخص الروح،فإننا نجد الأدلة القرآنية والحديثية تبين ،حسب ما يفهم من ظاهر نصوصها، أن الأرواح قد تعرف وجودا مستقلا عن الجسد قبله وبعده.بحيث يستمر بقاء الروح رغم تلاشي أعضاء الجسد وتحلله إلى تراب ورفات.
ومن بين هذه الأدلة القرآنية التي تشير في ظاهرها إلى أن الأرواح قد وجدت قبل الأجساد وكمال تكوينها ما نجده في قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ( الأعراف: 172- 174).
فوجود هذه الأرواح وطريقة أخذها من الظهور تبقى في حكم الغيب الذي يختص النص الديني بتقرير حقائقه، لكنه مع ذلك سيفتح المجال في الفكر الإسلامي للاستدلال عليه ومحاولة ملامسة حجبه بدقة علمية موضوعية كمعرفة جزئية لأبعاد هذه العملية وارتباط السلوك الإنساني وخلفياته بها، معتمدين في ذلك على ما عرضه القرآن والحديث من ظواهر نفسية ترتبط وجدانيا وسلوكيا بهذه المرحلة السابقة في تكوين الإنسان.
ولهذا فمعرفة النفس في الإسلام ومناهجها قد ترتكز أساسا على تحديد طبيعة الكينونة الإنسانية أولا وذلك من خلال تحديد مناطق الفصل بين عناصرها ، والتدليل على خصوصية كل عنصر فيها لكي يتسنى تحديد السلوك بحسب انتمائه إلى هذا أو ذاك.
لأنه إذا كان السلوك ذا طابع روحي محض فإن التجاوب معه يبقى في إطاره الروحي لا غير ويعالج بالأدوات الروحية.
أما إذا كان السلوك ذا طابع يغلب عليه الجانب المادي في أهدافه وغاياته فإن التعامل معه يكون أيضا من جنس عنصره، أي يعالج بالوسائل المادية، غير أن الجانب المادي في الإنسان لا يمكن أن يكون ذا طابع حركي وإدراكي إلا بوجود العنصر الروحي.
ولهذا فالعمل المادي عند الإنسان لا يستطيع أن ينفصل عن العمل الروحي مهما غالى في الانغماس والارتباط بالمادة تلبسا كليا، وسيلة وهدفا وغاية.