قالت الدكتورة جميلة حسن تِلوت إنها ليست ممن يرى بأن الدراسات المقاصدية علم نضج واحترق، بل نحتاج في كل فترة وحين أن نقيّم المنتوج العلمي في أي حقل معرفي؛ كي نعرف الثغرات فنملأها، ونعي النواقص فنتجاوزها. وأوضحت أن مجلة “الدراسات المقاصدية المعاصرة”، والتي تصدر عن “معهد المقاصد”، تهدف إلى إثارة النقاش المنهجي في موضوع الدراسات المقاصدية؛ لافتةً إلى أنه رغم التراكم التأليفي، ما زلنا نعدم منهجًا علميًّا صلبًا يمكن أن نسميه بـ”المنهج المقاصدي” في الدراسات المقاصدية، شأن المنهج الأصولي مثلاً.
والدكتورة جميلة حسن تِلوت هي أستاذة بجامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط. وأستاذة الأصول والمقاصد والدراسات القرآنية بمعهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية، جامعة القرويين، الرباط، ورئيسة تحرير مجلة “دراسات مقاصدية معاصرة”. ومن كتبها: نظرية دوران الأحكام الشرعية. مقاصد الأسرة في القرآن من الإنسان إلى العمران. الأسرة في التصور القرآني. الأخلاق والمقاصد. مرتبة العفو عند الإمام الشاطبي. وغيرها من الكتب والأبحاث المنشورة في المجلات العلمية المحكمة.. فإلى الحوار.
نود أن نبدأ بظروف نشأة مجلة “دراسات مقاصدية معاصرة”، والأهداف التي تتوخاها
في أول اجتماع مع فريق معهد المقاصد، تحدثت عن فكرة المجلة المقاصد ودافعت عنها، بل وقدمت ورقة في الباب، نظرًا لغياب مجلة علمية متخصصة في المقاصد، وآمن بالفكرة الفريق بأكمله الذي يرأسه د. جاسر عودة ويديره د. زيد البرزنجي؛ فرغم كثرة الدراسات العلمية غير أن التفكير في إنشاء مجلة متخصصة ظل بعيدًا عن اهتمامات المراكز البحثية.
ما زلنا نعدم منهجًا علميًّا صلبًا يمكن أن نسميه بـ”المنهج المقاصدي”
ومن هنا، أحببت أن يكون لي إسهام في الأمر، وساعد على ذلك الدكتور جاسر عودة الذي كان المشرف العام للعدد الأول، كما وفر المعهد فريقًا علميًّا سرَّع كثيرًا من وتيرة العمل، على رأسه الدكتور مولود محادي.
فحاولنا في البداية أن نضع لائحة بأهم المواضيع التي نراها ذات أهمية كبيرة؛ فكانت أعداد المجلة الأولى تتمحور حول المسألة المنهجية، لنشد انتباه الباحثين إلى هذه الزاوية من البحث، ولقد أثمر ذلك عن جهود طيبة تحتاج أن تثمن وتستكمل.
ذكرتم في كلمتكم بالعدد الأول عن “المنهجية المقاصدية”، أن المجلة هي “دعوة للتفكير البنّاء في المسألة الدراسات المقاصدية، أساسه الاجتهاد والابتكار والانخراط في السياق”.. نريد مزيدًا من التوضيح؟
لست ممن يرى بأن الدراسات المقاصدية علم نضج واحترق، بل نحتاج في كل فترة وحين أن نقيّم المنتوج العلمي في أي حقل معرفي؛ كي نعرف الثغرات فنملأها، ونعي النواقص فنتجاوزها. لذلك، فإن أملي من خلال المجلة إثارة النقاش المنهجي في موضوع المقاصد. فرغم التراكم التأليفي، ما زلنا نعدم منهجًا علميًّا صلبًا يمكن أن نسميه بـ”المنهج المقاصدي”، شأن المنهج الأصولي مثلاً.
ومن هنا، أهمية الحديث عن المنهج وفق رؤية اجتهادية من جهة، وسياقية من جهة أخرى، تعمد إلى بناء لبنة جديدة في صرح المقاصد وفق منهج اجتهادي جماعي. لذلك، تحدثنا في الأعداد الأولى عن المنهجية المقاصدية وعن تقويم المنهج المقاصدي، وما زلنا نطمح إلى مزيد من التفكير البنّاء في المقاصد؛ كي نستطيع أن ندفع بعجلة البحث بوتيرة أسرع وأفيد للأمة والإنسانية.
من زاوية عامة، كيف ترون حصاد الفكر المقاصدي الدراسات المقاصدية خاصة بعد الاهتمام به في السنوات الأخيرة؟
سيكون من الصعب أن أجزم برأي في هذه المسألة، وهناك عدد من المجلة أفردناه لهذا الأمر، وندعو الباحثين في هذه المناسبة أن يشاركوا معنا رأيهم وآراءهم وفق منهج النقد البنّاء.
وبداية يمكن أن أقول إننا أمام كثرة لا تكوثر بتعبير الأستاذ طه عبد الرحمن، فهناك كثرة عددية كمية سببها تشجيع نشر الكتب والدراسات المقاصدية؛ غير أنها ليست بالكثرة الكيفية أو النوعية التي تثير الأسئلة القلقة بخصوص المنهج والتنزيل.
مجلة “الدراسات المقاصدية” تهدف لبناء لبنة جديدة وفق منهج اجتهادي جماعي
فيمكن أن أقول إن النشر المقاصدي كان لفترة غير يسيرة عبارة عن “موضة”؛ فكل من أنجز بحثا للتخرج في الماجستير أو الدكتوراه في المقاصد يبادر بنشره، خصوصًا أن الإقبال كان شديدًا نظرًا لتأسيس وحدات ماجستير ودكتوراه في العالم العربي تخصصت في فن المقاصد. غير أن النشر لم يراعِ شرطَيْ الجدة والجودة دائمًا. ولو اطلعنا على “الدليل الإرشادي” الذي أشرف عليه الأستاذ المرحوم الدكتور محمد كمال الدين إمام، فبمستطاعنا أن نخرج بتقييم أولي للنشر في مجال الدراسات المقاصدية، بل يمكننا أن نعدد عدد الدراسات التي نشرت في الموضوع الواحد لنعي حجم أزمة النشر في العالم العربي.
وما الذي تحتاجه هذه الجهود حتى يتم تفعيل الدرس المقاصدي بصورة أكبر؟
أولاً ينبغي أن تكون هناك جهود علمية حقيقية، بعيدًا عن التكرار والاجترار، ومن ثم ستحتاج هذه الكتابات أن ترشد على مستويات ثلاثة على الأقل؛ منهجيًّا وإشكاليًّا وسياقيًّا.
أما الترشيد المنهجي فيلزم منه إبداع النسق المعرفي الذي يجعل المنهج المقاصدي متميزًا عن غيره، وإن كان متداخلاً معه في نفس الآن. ولا ضير في هذا الإطار من تكاثف الجهود من مجالات معرفية منهجية لنستطيع وضع نسق صلب، يضاهي الأنساق العلمية المعاصرة بتقصيدها وضبط مصطلحاتها على وجه الدقة والتحديد، ووضع آلياتها المنهجية الداخلية، وتحديد مجالات اشتغالها والبحث فيها.
النشر المقاصدي كان لفترة غير يسيرة عبارة عن “موضة”
والترشيد الإشكالي يروم إثارة الأسئلة الحقيقية والنقدية التي تدفع بالعلم نحو آفاق الإبداع والابتكار. وهذا الضرب من الترشيد يحتاج إلى باحثين وأساتذة يجيدون طرح السؤال وإبداع الإشكالات الحقيقية لا الموهومة؛ فعلينا أن نعي الإشكالات التي تنتمي إلى التاريخ والإشكالات التي تنتمي إلى الواقع. وللأسف كثير من الباحثين ما زال أسيرًا للتاريخ في مشكلاته وقضاياه، ولم ينخرط بعد في الواقع الجديد.
كما نحتاج إلى الترشيد السياقي الذي يجعل الباحث ينظر إلى الإشكالات التي ترتبط بسياقه العلمي والعملي، مع ضرورة الوعي بأن السياق مختلف بحسب الزمان والمكان فضلاً عن الأبعاد السياسية والاقتصادية. ومن هنا، فالذي يعيش في ماليزيا يعيش تحديات مختلفة عمن يعيش في المغرب، مع وجود قضايا مشتركة يفرضها النظام العولمي؛ كالإشكالات المرتبطة بالأسرة وتحديات بقائها واستمرارها. ومن ثم، يلزم دومًا على الباحث النظر في حضور الدراسات المقاصدية أو غيابها في الواقع، بالتحليل وترشيد التنزيل.
ثمة تنازع على مسألة فصل المقاصد بدرس مستقل عن أصول الفقه.. ما رأيكم؟
لقد دونت في ذلك كتابات ومقالات كثيرة ومتعددة، ومعظمها متاح على الإنترنت، ويمكن تحميله، لكن من الجيد هنا أن نميز بين ضربين من المقاصد على الأقل:
الأول: المقاصد ذات البعد التشريعي: وهذا الضرب لا يمكن فصله عن الأصول، إذ الأصول هي الضابطة لعمليتي الاستنباط والاجتهاد، أما المقاصد فتكون مؤطرة للعمل الاجتهادي بالحرص على تحقيق الاجتهاد في النازلة لمقاصد الشرع، أما المقاصد لوحدها فلا تصلح أن تكون آلية للاجتهاد، وإن جعل الشاطبي العلم بالمقاصد من شروط الاجتهاد، لكن ذلك يتضمن أن هذا المجتهد ملم باللغة التي تؤهله للاستنباط والتأويل، فضلاً عن معرفته قواعد التعارض والترجيح بين النصوص، وقواعد الاجتهاد المذهبي، وغيرها من الشروط التي يعرفها المتخصصون. هذا بخصوص الضرب الأول.
علم الأصول يشتمل على القواعد الضابطة لعمليتي الاستنباط والاجتهاد
أما الضرب الثاني فهو المقاصد ذات المنحى الفكري والحضاري: فهذا الضرب من الدراسات المقاصدية لا يروم التشريع الجزئي وإنما التنظير الكلي، الذي يرتبط بالاجتماع الإنساني في قضاياه الكلية، وفي هذا الشق يمكن أن نتحدث عن فصل إجرائي عن الأصول.
حيث إن الضرب الأول يتوافق مع الأصول في الهدف والغاية، فكان ادعاء الفصل موقعًا في السيولة وغياب الضبط في العمل الاجتهادي والتشريعي الذي تحققه المعرفة الأصولية.. أما الضرب الثاني فهدفه مجال التصورات الكلية، وهو بذلك يتقاطع مع تخصصات متعددة؛ فيمكن أن يتقاطع مع الأصول فيستفيد من تنظيرات الأصوليين، كما يمكن أن يتقاطع مع تخصصات معرفية أخرى.. فالتفريق هنا باعتبار المجال والقصد.
تعميم فكرة الدراسات المقاصدية على العلوم الشرعية، بحيث يكون لكل علم مقاصده التي تسهم في بلورة درسه وتطوير الاجتهاد فيه.. كيف ترون هذه الفكرة؟
أحسب أن هذه الفكرة لها من الأصالة ما لا يخفى؛ إذ عمل المتقدمون على تقصيد العلوم في مقدمات كتبهم، وقد كتب الأستاذ الريسوني في ذلك دراسة لطيفة. وعمومًا فكل متخصص يعرف أن قبل دراسة العلوم عليه أن يعي مقاصدها ومصطلحاتها ومناهجها؛ فمن الضروري إذن تقصيد المعارف والعلوم، فمن شأن ذلك توضيح بوصلة النظر والبحث.
كيف نضبط تفعيل الدراسات المقاصدية، ونزاوج بين النص وروحه؛ بحيث لا تكون “المقاصد” ذريعة للتحرر من النص والتفلت من الأحكام؟
الحديث عن ضبط الدراسات المقاصدية يكون غالبًا في الشق التشريعي، وأحسب أن هذا الضبط يتحقق بالتمكن من علم الأصول الذي يشتمل على القواعد الضابطة لعمليتي الاستنباط والاجتهاد. أما تحييد علم الأصول من العملية الاجتهادية، فهو الباب الواسع للتحلل من سلطة الأحكام الشرعية باسم المقاصد. لذلك، نجد كثيرًا من الاجتهادات التي تلغي كثيرًا من الأحكام الشرعية تتوسل بالمقاصد ظاهرًا وتجهل قواعد الاجتهاد والتعليل باطنًا.
المقاصد ذات البعد التشريعي لا يمكن فصلها عن الأصول
فمثلاً، هناك من دعا لإلغاء العدة الشرعية، مبينًا أن القصد من هذه العدة هو استبراء الرحم، وهذا القصد يمكن تحقيقه اليوم بالوسائل الطبية. والسؤال الذي ينبغي أن يثار هنا: هل استبراء الرحم هو القصد الوحيد من العدة؟ أم إن هناك مقاصد أخرى؟ هل استبراء الرحم مقصد منصوص أم مستنبط؟
وهل هذا القصد هو علة كلية يدور معها الحكم وجودًا وعدمًا؟ أم الاستبراء علة تنضاف إلى علل أخرى فيكون هذا الحكم من الأحكام التي تعلل بأكثر من علة؟ هل مدة العدة هي واحدة في الشرع الإسلامي أم مختلفة؟ وما سبب هذا الاختلاف بين ثلاثة قروء للمطلقة وأربعة أشهر وعشرًا ما دام القصد هو استبراء الرحم؟ وهل ثبت في الشرع عدة من لا حاجة لها في استبراء الرحم كالصغيرة والآيس؟.. أسئلة كثيرة يمكن أن نثيرها هنا لنفهم منطق التعليل وعلاقته بالمقاصد.
تحييد علم الأصول من العملية الاجتهادية باب واسع للتحلل باسم المقاصد
إن الاستبراء علة ثبتت في النصوص الفقهية، وكثير ممن يرفعون لواء الاجتهاد بالمقاصد لوحدها ينتقدون كلام الفقهاء وتعليلاتهم، غير أنا لا نعدم نوعًا من التلفيق بالاستدلال بالرأي الفقهي حين يكون مناسبًا لنتائج النظر عندهم؛ فلا يثيرون الأسئلة المنهجية التي يتيحها الدرس الأصولي، والتي تناقش منطق التعليل وفلسفته؛ حيث أبدع الأصوليون في تسوير حدود التعليل، وميّزوا بين المقبول والمردود؛ ولا يمكن بأي حال تجاوز هذه القواعد من باب تقديم الدراسات المقاصدية في عملية الاجتهاد.