خلق الله تعالى الإنسان لعبادته- عبادة بالمفهوم الشامل الذي يتخذ من الكون كله محرابًا- وجعل لهذه العبادة علامات ومقتضيات، تشير إليها وتدل على صدق التوجه بها.. منها ذكر الله والمداومة عليه.

وكان الذكر من علامات عبادة الله ومقتضياتها؛ لأن المحب عامةً يحرص على دوام ذكر محبوبه، واستحضاره في كل موقف يمر به؛ حتى إنه لو مر بمكان استحضر مروره به مع محبوبه، ولو أكل أكلة كانت مفضَّلة لدى من يهواه، قفزت صورته إلى ذهنه بمجرد رؤيته هذه الأكلة.. وهكذا، يصير المحبوب حاضرًا في كل أمر، شاخصًا في كل حال.. فكيف بمن يحب الله تعالى؟!

إنه لاشك سيذكر اللهَ سبحانه في كل موقف يمر به، في كل خير يصيب منه، وفي كل ضائقة تنفرج عنه، وفي كل شدة تزول، وفي كل كرب يحدث.. سيذكر الله شاكرًا أو داعيًا أو مستغفرًا أو مُثْنِيًا أو مُؤَمِّلاً أو راجِيًا..

ومن هنا، تأتي أهمية الذكر ؛ فهو غير محصور في حال، ولا متعِّلق بموقف؛ وإنما هو منساب في جميع الأحوال والمواقف! ولكل واحد منها ذكره اللائق به والمناسب له.

القرآنُ كتاب الذِّكر

والمتأمل في مادة الذكر في القرآن الكريم يجدها ثرية المعاني، متنوعة الدلالات، موزَّعة المواضع على امتداد سور كثيرة.. حتى قد يجوز لنا أن نصف القرآن الكريم بأنه كتاب الذكر!

– فقد جاء فيه الأمر بالذكر صراحة: كما في قوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (آل عمران: 41)، وقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ} (النساء: 103) .

– وورد الأمر بالإكثار منه، وليس بمجرد الأداء: مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الأحزاب: 41، 42).

– وأمر القرآن بالذكر مجمَلاً، كما في قوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} (البقرة: 203)، ومفصَّلا بحيث يشمل التسبيح والتكبير وغيرهما، كما في قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (الفرقان: 58)، {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (الواقعة: 74)، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (المدثر: 3)، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (الأعلى: 1).

– وورد الأمر بالذكر حتى في أحلك الظروف وأصعب المواضع، أي في القتال، وليس في مواضع الراحة الطمأنينة فحسب: فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال: 45).

– وبيَّن القرآن الكريم أن الذكر لا يرتبط بزمن ولا حال، وإنما هو مطلوب في كل الأوقات والأحوال: قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (غافر: 55)، وقال: {لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الفتح: 9)، وقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} (ق: 40).

–  وأوضح القرآن أن جزاء الذكر من جنسه: فكما يذكر العبد ربه، فإن الله تعالى يذكره، {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (البقرة: 152)؛ وشتان بين ذكر الله تعالى وذكر العبد!

– كما أوضح أن جزاء الذكر يعود على القلب ويسبغه بالطمأنينة والسكينة: قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28).

– ويستوقفنا في القرآن أيضًا أن الأمر بالذكرِ مندمجٌ في السعي والحركة في الأرض، وليس جزءًا من التبتل والانقطاع للعبادة، أي أن القيام به لا يقتضي التفرغ له على نحو الرهبنة: قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: 10)؛ فدلت الأية على أننا مأمورون بعد الصلاة بالانتشار في الأرض وبالذكر؛ فالذكر يأتي حال كوننا منتشرين في الأرض، ليكون جزءًا من “المحراب الواسع”، وهو الكون كله!

وقد أشار لهذا المعنى اللطيف ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فقال: أي حال بيعكم وشرائكم، وأخذكم وعطائكم، اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة. ولهذا جاء في الحديث: “من دخل سوقًا من الأسواق فقال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ كتبت له ألف ألف حسنة، ومحي عنه ألف ألف سيئة”. وقال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرًا ، حتى يذكر الله قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا([1]).

الذكر حالٌ للأنبياء

والأنبياء، وهم المصطفون الأخيار، كانوا مثالاً على ذكر الله تعالى، لا يفتر لسانهم عن التوجه إليه سبحانه، ولا يخرج حالهم عما يوجبه هذا الذكر من الطاعة والامتثال.. وكان خاتمهم محمدٌ صلى الله عليه سيدَ الذاكرين، وسابقَ الناس أجمعين في التحميد والتسبيح والتهليل والتكبير والتعظيم..

وقد التفت الشيخ الغزالي لهذا الحال من الذكر عند الأنبياء، فقال بعبارته البليغة مقارِنًا بين أنبياء الله تعالى موسى وعيسى وإبراهيم ومحمد عليهم جميعًا الصلاة والسلام:

“شغفت بسير العباد الصالحين، وحاولت أن أقبس منها شعاعًا أستضيء به. كنت بقلبي مع موسى في مدين، وهو يحس لذع الوحشة والحاجة ويقول: “رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ”. وكنت مع عيسى وهو يواجه مساءلة دقيقة ويدفع عن نفسه دعوى الألوهية: “مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ”. وكنت مع إبراهيم وهو بوادي مكة المجدب يسلم ابنه للقدر المرهوب، ويسأل الله الأنيس لأهله: “رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ”. غير أني انبهرت وتاهت مني نفسي وأنا بين يدي النبي الخاتم محمد بن عبد الله وهو يدعو ويدعو. لقد شعرتُ بأني أمام فن في الدعاء ذاهب في الطول والعرض لم يُؤْثَر مثله عن المصطفين الأخيار، على امتداد الأدهار”([2]).

ماذا فعلنا بالذكر!

هكذا رأينا مسيرة الذكر في القرآن الكريم، وفي أحوال الأنبياء:

– استحضار دائم لمعية الله تعالى.. في جميع الأوقات والأحوال..

– ثناء حار على الله تعالى، تكبيرًا وتحميدًا وتسبيحًا..

– عمل موصول بالقلب نابعٌ منه وعائد عليه بالسكينة والطمأنينة..

– قول باللسان وعمل بالجوارح.. فلكل جارحة ذكرٌ مطلوب منها..

– فعل منساح في “المحراب الواسع/ الكون”، وليس انقطاعًا بين الجدران..

وعلى هذا الدرب سار الصالحون..

ثم خَلَفَتْ من بعدهم خُلوفٌ حسبت الذكر:

– عملاً باللسان وحده..

– أو انقطاعًا للترديد..

– أو منافسة في مكاثرة العدد..

– أو تنميقًا للعبارة..

– أو هزًّا للأكتاف وتمايلاً..!

فَداروا حول الذكر شكلاً، ولم يَنفذوا إلى حقيقته وجوهره.. ولم يَعد الذكرُ يفعل فعله المنوط به، ولا يترك الأثر المرجو منه!

ولا شك أن من الخطأ أن نتصور أن الذكر له أجر عظيم وثواب كبير، كما دلت آيات وأحاديث كثيرة، لمجرد أنه عمل باللسان فحسب.. إنما كان له هذا الفضل لما يستدعيه من تفكر وتأمل، ومن خشية وامتثال، ومن حب لله تعالى وخوف منه.. ولهذا كان الذكر مطلوبًا باستمرار، في جميع الأحوال والأزمان، حتى ننفذ إلى الحكمة مما نحن بصدده من حال أو زمان؛ فنحمد الله على خيرٍ حصل، أو نستعيذ به من شرٍّ وقع، أو ندعوه في أمرٍ مأمول..

ولعل الوقت قد حان لوقفة جادة نستدرك بها ما فاتنا من العيش في رحاب الذكر ، قولاً عملاً؛ ومن عودتنا إليه على النحو الذي فصَّله القرآن الكريم، وسلكه النبيُّ صلى الله عليه وسلم والصالحون من بعده..


([1]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 8/ 123.

([2]) فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء، محمد الغزالي، 10، 11.