سعيد بن جبير شخصية إسلامية عظيمة، درس العلم عن عبد الله بن عباس حبر الأمة وعن السيدة عائشة أم المؤمنين، مات شهيدا مدافعا عن الحق وثائرا في وجه الباطل. وكان عالما شامخا وإماما تقيا ومقرئا ومفسرا ونجما لامعا ومفخرة من مفاخر التاريخ الإسلامي. سكن الكوفة ونشر العلم فيها وكان من علماء التابعين، قتله الحجّاج بن يوسف بسبب خروجه مع عبد الرحمن بن الأشعث في ثورته على بني أمية.
يعتبر الإمام الحافظ الشهيد التابعي سعيد بن جبير الأسدي من أعظم التابعين وأفضل القرّاء وكبار العلماء، ومن أئمة المسلمين في التفسير والفقه. نهل من ينابيع الإسلام الصافية، فتخلّق بأخلاقهم وتحلّى بآدابهم وحمل علومهم ومعارفهم سائرا على منهجهم في إحقاق الحق ودحض الباطل.
روى له البخاري، ومسلم وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة. ولم يرحل عن هذه الدنيا إلا بعد أن سجل أروع المواقف البطولية في تصديه للباطل وبذل دمه الزكي في سبيل الله والإسلام ونصرة الحق فسجل اسمه مع الشهداء الأبرار.
من هو سعيد بن جبير؟
هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي، ليس من بني أسد بل كان مولى بني أسد حيث يرجع أصل سعيد إلى الحبشة، وهو أحد الرجال التابعين، لم تذكر الروايات مولد سعيد بشكل صريح، بل عُرف تاريخ مقتله وهو سنة 95 للهجرة في شهر شعبان، وقد جاء أنَّه قال لابنه: “ما بقاء أبيك بعد سبعة وخمسين” أي أنَّه عاش سبعة وخمسين عامًا وهذا يعني أنَّه وُلد سنة 38 للهجرة، والمؤكد أنَّه ولد في فترة خلافة الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وقيلَ أيضًا إنَّ سعيد توفِّي وله من العمر 49 عامًا أي أنَّ مولده يكون سنة 46 للهجرة.
ولد سعيد بن جبير في زمن خلافة الإمام علي بن أبي طالب بالكوفة، من أبوين مملوكين، أبوه جبير مولى بني والبة وأمه أمة تكنى بـ (أم الدهماء)، قال ابن العماد الحنبلي: وكان ــ أي سعيد ــ “مملوكاً أسوداً”. فكان من الطبيعي أن تسود بواكير حياته ونشأته الغموض والعتمة فلا يوجد في مصادر التاريخ ما يبين ولو بإشارة إلى ولادته وموارد تعليمه وثقافته.
نشأته وتعليمه
قرأ سعيد بن جبير القرآن على ابن عباس، وأخذ عنه الفقه والتفسير والحديث، كما روى الحديث عن أكثر من عشرة من الصحابة، وقد بلغ رتبة في العلم لم يبلغها أحد من أقرانه، قال خصيف بن عبد الرحمن عن أصحاب ابن عباس: كان أعلمهم بالقرآن مجاهد وأعلمهم بالحج عطاء، وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب، وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير. وقد نشأ سعيد في الكوفة وتلقى تعليمه الأول في مسجدها الذي كان يعجّ بطلاب العلم ثم انتقل إلى مكة المكرمة، حيث صحب عبد الله بن عباس وتلقى على يديه العلوم، ويصف ابن سعد لقاء ابن عباس بتلميذه سعيد لأول مرة فيقول على لسان سعيد: قال لي ابن عباس ممن أنت ؟ قلت: من بني أسد، قال من عربهم أو من مواليهم ؟ قلت: لا بل من مواليهم، فقال :فقل أنا ممن أنعم الله عليه من بني أسد .. “.
وقد وجد ابن عباس في سعيد نبوغا عاليا وقابلية على إدراك الحديث فاقت قابليات غيره ممن قدموا عليه لطلب العلم حتى كان سعيد يحدِّث بمحضر أستاذه ابن عباس كما روى ابن سعد وابن خلكان فقالا: “قال ابن عباس لسعيد بن جبير حدّث فقال: أحدثّ وأنت هاهنا ؟، فقال: أوليس من نعمة الله عليك أن تتحدث وأنا شاهد، فإن أصبت فذاك وإن أخطأت علمتك”.
كان سعيد بن جبير، حبشي الأصل، عربي الولاء، أدرك أن العلم وحده هو الذي يرفعه، وأن التقوى وحدها هي التي تكرمه، وتبلغه الجنة، ومنذ نعومة أظفاره كان الناس يرونه إما عاكفاً على كتاب يتعلم، وإما في محراب يتعبد، فهو بين طلب العلم والعبادة، إما في حالة تعلم، أو في حالة تعبد.
مع الصحابة والتابعين
صحب سعيد بن جبير كثيرا من الصحابة والتابعين وروى عنهم لكنه لم يجد ضالته في العلم حتى التقى بالإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) فنهل من هذا المنهل العذب العلوم الإلهية واغترف من المدرسة المحمدية، فقد تشرّف سعيد بصحبة هذا الإمام العظيم فلازمه بعد وفاة ابن عباس فانتقل سعيد إلى المدينة المنورة.
لقد استظل سعيد بظل الشجرة النبوية وتغذى من ثمارها ونهل من علومها، قال أبو القاسم الطبري عن سعيد: “هو ثقة الإمام، حجة على المسلمين”. وقال ابن حبان: “كان فقيهاً عابداً فاضلاً”. وقال ميمون بن مهران: “لقد مات سعيد بن جبير وما على الارض رجلاً إلا يحتاج إلى سعيد”. وقال خصيف: “كان أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب، وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاووس، والتفسير أبو الحجاج مجاهد بن جبر، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير”.
كما أثنى على سعيد بن جبير بمثل هذه الأقوال كلا من : أبو نعيم في حلية الأولياء، وابن شهرآشوب في المناقب، وابن حجر في التقريب، وابن العماد الحنبلي في الشذرات وغيرهم، وأصداء واقعة الطف..وغيرهم كثيرون.
عاصر سعيد بن جبير الكثير من الأحداث المأساوية التي مرت بها الأمة الإسلامية، فقد شهد ثورة ابن الزبير ورمي الكعبة المشرفة بالمنجنيق وكذلك واقعة الحرة واستباحة مدينة الرسول، وغيرها من الأحداث التي أدمتْ قلوب المسلمين وخاصة أمثال سعيد بن جبير من المؤمنين المخلصين فكانت آلامهم أشد وهم يرون المقدسات والحرمات تنتهك والدماء البريئة تسفك والأموال تنهب بغير وازع من دين أو ضمير.
كما شهد سعيد بن جبير وقائع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث مع الحجاج منها: وقعة دُجيل، ووقعة الأهواز، ووقعة دير الجماجم، وذكر الطبري إن الوقعة الأخيرة ــ أي دير الجماجم ــ كانت مائة يوم وكذلك قال ابن الأثير في كامله واشترك سعيد مع القرّاء في تلك الوقائع وكان شعارهم: “يا لثارات الصلاة” وقتل من القرّاء خلق كثير في هذه الوقائع.
ومثل سعيد بمكانته العلمية لا يسكت على مثل هذه الأعمال الإجرامية فرفع راية الرفض وأنكر على عبد الملك هذه الأعمال الشنيعة وصدح بقول الحق أمام الحجاج والي العراق حتى مضى شهيداً فساند القراء من الصحابة والتابعين في ثورتهم على الأمويين وحينما سُئل عن خروجه على الحجاج قال: “إني والله ما خرجت عليه حتى كفر”.
“فررت حتى استحيت من الله”
وذكر المؤرخون أن كل الوقائع كانت على الحجاج إلا الوقعة الأخيرة فإنها كانت على ابن الأشعث، ولمّا قتل عبد الرحمن وانهزم اصحابه من دير الجماجم لحق سعيد بمكة واستخفى مع جماعة من أضرابه، وقيل إنه دخل أصبهان وأقام بها مدة ثم أرتحل منها إلى العراق وسكن قرية سنبلان، وقال ابن كثير: “واستمر ــ أي سعيد ــ في هذا الحال مختفياً من الحجاج قريباً من اثنتي عشرة سنة”. وروي عنه لما قيل له بأن يستخفي قوله: “والله لقد فررت حتى استحيت من الله وسيجيئني ما كتب الله لي”.
كان سعيد من أوائل الثائرين على السلطة الأموية، فكان يرفع صوته قائلا: “قاتلوهم على جورهم في الحكم وخروجهم من الدين وتجبّرهم على عباد الله وإماتتهم الصلاة واستذلالهم المسلمين”.
ويصف السيوطي عبد الملك بن مروان و طاغيته الحجاج فيقول: “لو لم يكن من مساوئ عبد الملك بن مروان إلا الحجاج وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة يهينهم ويذلهم قتلاً وضرباً وشتماً وحبساً وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين فضلاً عن غيرهم وختم عنق أنس وغيره من الصحابة يريد بذلك ذلهم لكفى ذلك في مساوئه فلا رحمه الله ولا عفا عنه”.
قتيل الحجّاج أم قاتله؟
عندما أدرك الحجاج بمكان التابعي الجليل سعيد بن جبير، أمر أن يُساق إليه مقيدا، وعندما وصل إليه أمر الحجاج بذبحه، وأدَّعى أنه عدو لله ودينه، وهكذا استشهد رحمه الله، وباء الحجاج بن يوسف الثقفي بإثمه.
ودارت بين الحجاج وسعيد بن جبير محاورة طويلة تباين المؤرخون في نقلها انتهت بقول الحجاج غاضباً: “أما والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً قبلك ولا أقتلها أحداً بعدك”، فقال سعيد: “اللهم لا تحل له دمي ولا تمهله من بعدي”. ثم قال: “اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي”.
ويقال أن سعيد جبير ذُبح من القفا، وقد استجاب الله دعاءه فقد التبس الحجاج في عقله ودبّ المرض في جسده وجعل ينادي: “مالي ولسعيد” ! ولم يزل الحجاج بعد قتله سعيدا فزعا مرعوبا حتى مُنع من النوم وكان كلما نام رآه آخذا بمجامع ثوبه يقول: “يا عدو الله فيم قتلتني؟ فيستيقظ مذعورا ويقول مالي ولابن جبير؟ ولم يزل متلبساً حتى هلك”.
وروى الدميري: إن عمر بن عبد العزيز رأى الحجاج في المنام بعد موته وهو جيفة منتنة فقال له: ما فعل الله بك ؟ قال قتلني بكل قتيل قتلته قتلة واحدة إلا سعيد بن جبير فإنه قتلني به سبعين قتلة. ويعلل الدميري سبب ذلك: إن سعيد بن جبير لم يكن له نظير في العلم في وقته ثم ينقل عن الحسن البصري قوله: والله لقد مات سعيد بن جبير يوم مات وأهل الأرض من مشرقها إلى مغربها محتاجون لعلمه، ثم يقول الدميري : فمن هذا المعنى ضوعف العذاب على الحجاج بقتله، وقيل إن الذي أفزع الحجاج عندما رأى مقتل سعيد سيلان الدم الكثير الذي لم يرَ بقدره عند من قتلهم قبله مما جعله يستدعي الأطباء ويسألهم عن ذلك فقالوا له: هذا قتلته ونفسه معه والدم تبع للنفس ومن كنت تقتله قبله كانت نفسه تذهب من الخوف لذلك قلّ دمه.
الحجاج وابن جبير ..الحوار التاريخي
لما أوقف سعيد بن جبير بين يدي الحجاج قال له: يا سعيد ألم أشركك في أمانتي؟ ألم أستعملك؟ ألم أفعل؟ ألم أفعل؟ كل ذلك يقول: نعم حتى ظن من عنده أنه سيخلي سبيله حتى قال له: فما حملك على الخروج علي وخلعت بيعة أمير المؤمنين، فقال سعيد: إن ابن الأشعث أخذ مني البيعة على ذلك وعزم علي، فغضب عند ذلك الحجاج غضبا شديدا، وانتفخ حتى سقط طرف ردائه عن منكبه، وقال له ويحك ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير وأخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: بلى، قال: ثم قدمت الكوفة واليا على العراق فجددت لأمير المؤمنين البيعة فأخذت بيعتك له ثانية، قال: بلى ! قال فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين وتفي بواحدة للحائك ابن الحائك؟ يا حرسي اضرب عنقه. قال: فضربت عنقه فبدر رأسه عليه لا طئة صغيرة بيضاء، وقد ذكر الواقدي نحو هذا، وقال له: أما أعطيتك مائة ألف؟ أما فعلت أما فعلت. كما دار بينهما هذا الحوار:
الحجاج: ما اسمك؟ سعيد: سعيد بن جبير.الحجاج: بل أنت شقي بن كسير. سعيد: بل أمي كانت أعلم باسمي منك. الحجاج: شقيتَ أنت، وشقيتْ أمك. سعيد: الغيب يعلمه غيرك. الحجاج: لأبدلنَّك بالدنيا نارًا تلظى. سعيد: لو علمتُ أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهًا. الحجاج: فما قولك في محمد. سعيد: نبي الرحمة، وإمام الهدى. الحجاج: فما قولك في على بن أبي طالب، أهو في الجنة أم في النار؟ سعيد: لو دخلتها؛ فرأيت أهلها لعرفت. الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟ سعيد: لست عليهم بوكيل. الحجاج: فأيهم أعجب إليك؟ سعيد: أرضاهم لخالقي. الحجاج: فأيهم أرضى للخالق؟ سعيد: علم ذلك عنده. الحجاج: أبيتَ أن تَصْدُقَنِي. سعيد: إني لم أحب أن أكذبك. الحجاج: فما بالك لم تضحك؟ سعيد: لم تستوِ القلوب وكيف يضحك مخلوق خلق من طين والطين تأكله النار.
رفض المال والدنيا
اتبع الحجاج مع سعيد بن جبير طريقًا آخر، لعله يزحزحه عن الحق، فقد أغراه بالمال والدنيا، لكن سعيد أفهمه أن المال هو أعظم وسيلة لإصلاح الأعمال وصلاح الآخرة.
الحجاج: ويلك يا سعيد! سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار.الحجاج: أي قتلة تريد أن أقتلك؟سعيد: اختر لنفسك يا حجاج، فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلتك مائة قتلة في الآخرة.الحجاج: أتريد أن أعفو عنك؟ سعيد: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عُذر. الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه. فلما خرجوا ليقتلوه، بكي ابنه لما رآه في هذا الموقف، فنظر إليه سعيد وقال له: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة؟ وبكي أيضًا صديق له، فقال له سعيد: ما يبكيك؟ الرجل: لما أصابك. سعيد: فلا تبك، كان في علم الله أن يكون هذا، ثم تلا: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} [الحديد:22] ثم ضحك سعيد، فتعجب الناس وأخبروا الحجاج، فأمر بردِّه، فسأله الحجاج: ما أضحكك؟ سعيد: عجبت من جرأتك على الله وحلمه عنك. الحجاج: اقتلوه. سعيد: {وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين} [الأنعام: 79]. الحجاج: وجهوه لغير القبلة. سعيد: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة:115]. الحجاج: كبوه على وجهه. سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى. الحجاج: اذبحوه. سعيد: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، خذها مني يا حجاج حتى تلقاني بها يوم القيامة، ثم دعا سعيد ربه فقال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي.