تعد الأفلام من أكبر الوسائل الإعلامية رواجا في العالم، منذ أن ظهرت في عام 1912م، حيث ظهر ما يعرف بالفيلم المديد وليس القصير، وقد كانت بداية الأفلام هزلية يقصد بها الضحك والترفيه، ثم تنوعت، فكان منها الفيلم العاطفي، والفيلم الاجتماعي، والفيلم الهزلي، والفيلم التاريخي، والفيلم البوليسي، والفيلم الموسيقي، وأفلام الرعب، إلى غير ذلك.
ولقد كان موقف الفقهاء- بشكل عام- يأخذ منحى الرفض والعداء لهذه الصناعة التي يغلب عليها المخالفات الشرعية، سواء كانت مخالفات تتعلق بالشكل أو كانت تتعلق بالمضمون، أو ما يصاحب الأفلام من مؤثرات خارجية يفتي غالب الفقهاء فيها بالحرمة، مثل الموسيقى وغيرها.
إلا أن الأخطر في الأمر، هو جمود غالب الفتاوى فيما يتعلق بالأفلام السينمائية، وعدم إدراك أهميتها وتأثيرها في المجتمعات، وغياب مآلات البعد عن صناعة الأفلام بأنواعها، وعدم الانتباه إلى التوغل الشديد للأفلام في المجتمعات العربية والإسلامية حتى دخلت كل بيت من بيوت المسلمين، وغالب المسلمين يشاهدونها رغم صدور فتاوى كثيرة للتحريم، بل كان لها الأثر الأكبر في تغيير كثير من طبائع الشعوب الإسلامية، وتوجهها نحو عادات الغرب المسيحي خاصة.
وكان من الأولى البعد عن جدلية التحليل والتحريم- ليس من باب التقليل من بيان الحكم الشرعي، ولكن كان جديرا بدلا من تلك الجدلية أن يصنع المسلمون أفلاما تعبر عن قيمهم وحضارتهم، وأن يوجد البديل الذي يلتزم أحكام الشريعة وضوابط الإسلام في الفن الهادف.
ولا أعني بهذا ما يمكن أن يطلق عليه ( الفن الإسلامي)، أو ( الأفلام الإسلامية)، فتلك مساحة ضيقة جدا للبديل الذي نرجوه، وإنما نعني به الفن الهادف الذي ينبى على الأخلاق الإسلامية ويراعي قيم المجتمعات العربية والإسلامية، وأن ينتصر لقضايا الحق وحفظ كرامة الإنسان، وأن يدعو إلى الإنتاج والتقدم، وأن يكون داعما لحركة النهضة والرقي في المجتمعات الإسلامية.
ومع غلبة الفيلم المتحرك، لم تنجح الحركة الإسلامية في توظيف أنواع أخرى من الأفلام، مثل الفيلم الوثائقي، والذي يأخذ في الغالب صبغة علمية، أو حتى الأفلام الإخبارية، وأن غالب الإنتاج فيه دون المستوى المطلوب، فهو في كثير منه يمثل مرحلة الهواة لا مرحلة الاحتراف.
إننا اليوم في أمس الحاجة إلى إدراك أهمية صناعة الأفلام بأنواعها الثلاثة: الوثائقية والإخبارية والمتحركة، وأن نوظف تلك الأفلام في خدمة قضايا الدين والأمة والمجتمع، وأن نسعى جاهدين أن نقدم نموذجا للفن الهادف.
إن الإسلام- كما يقول الشيخ الطاهر ابن عاشور- رحمه الله- جاء بمقصدين عظيمين، هما: التقرير والتغيير، فلم تجئ رسالة الإسلام لمحو الحياة الجاهلية بكل ما فيها، وإنما أقرت ما كان فيها صالحا نافعا متوافقا مع الفطرة الإنسانية، لأن الجاهلية العربية لم تكن شرا محضا، بل كان فيها خير وشر، فأقر الإسلام ما فيها من خير، وأبطل ما فيها من شر، وهذا هو مقصد التغيير.
وحين ننظر إلى الفنون التي كانت موجودة في الجاهلية، كالشعر وغيره، رغم ما كان فيه من مخالفات شرعية، إلا أن منهج الإسلام لم يحرم الشعر، ولم يمنع الشعراء من الإنتاج الشعري وغيره من فنون الأدب التي كانت موجودة، لكنه وجهه نحو الوجهة الصحيحة، فاستعملت فنون الأدب في الدفاع عن قضية الإسلام، ونشر الفضائل ومحاربة الرذائل، وقد كان للنبي ﷺ ثلاثة من الشعراء: ( حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، رضي الله عنهم)، بل قل من الصحابة من لم يشعر، أو يستشهد بالشعر، كما كان النبي ﷺ يفعل، وكان أحيانا يحب أن يستمع إلى بعض الأشعار كشعر لبيد بن الأعصم، الذي قال فيه النبي ﷺ:” كاد لبيد أن يسلم.
ومع وجود فن مثل الشعر جاء القرآن ليمايز بين نوعين من هذا الفن، فيذم نوعا ويمدح آخر، بناء على مقصد كل نوع، وما يؤول إليه، وما ينتهي إليه من نتائج وآثار، كما قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ . أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 224 – 227].
بل إن النبي ﷺ كان يحرض شعراءه على استعمال فن العصر الذي هو الشعر وغيره، وأن يوظفوه في الدفاع عن الإسلام، بل يصرح لهم أن رئيس الملائكة جبريل عليه السلام يؤيد حسان بن ثابت فيما يقوله من شعر، ولم يعتبر الرسول ﷺ الشعر رجسا من عمل الشيطان، فقد روى الشيخان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة : أنشدك الله هل سمعت رسول الله ﷺ يقول : ” يا حسَّان أجب عن رسول الله ، اللهم أيِّده بروح القدس ” قال أبو هريرة : نعم .
فهل يستطيع أحد اليوم أن يقول: إن الله يؤيد العاملين بمجال الفنون والإعلام إن كانوا يستعملون الفن والأدب في خدمة دعوة الله؟!!
بل الأعجب من هذا، أن النبي ﷺ استعمل نفس السلاح الذي كان المشركون يستعملونه، ويرى أن فن الشعر أشد عليهم من القتل بالسلاح، كما ورد عن عائشة – رضي الله عنها: أن النبي ﷺ قال: اهج قريشا، فإنه أشد عليهم من رشق النبل.
بل مما يلفت الانتباه أن النبي ﷺ حين دخل مكة فاتحا وعفا عن غالب أهل مكة ممن قتلوا أصحابه وآذوه هو وأصحابه، وقال لهم:” اذهبوا فأنتم الطلقاء”، إلا أنه أباح دم بعض شعراء المشركين لهجائهم الرسول – ﷺ- والمسلمين.
ألا يسمح لنا هذا أن نستعمل منهج النبي ﷺ في استعمال الفنون المعاصرة ومنها صناعة الأفلام في خدمة قضايا الإسلام والأمة، ونشر الوعي بالمجتمعات الإسلامية والعربية؟
إننا اليوم بحاجة إلى إعادة الوعي وعدم الجمود عند القول بالتحريم المطلق للفنون والأفلام، لأن غالب الفتاوى إنما تقع على واقع بعينه، لكننا اليوم بحاجة إلى إيجاد نوع جديد من الفنون خاصة الأفلام في صناعة الوعي الحضاري لتاريخ الإسلام ومبادئه وأحكامه، عبر وسيلة هي الأكثر تأثيرا على المجتمعات حتى اليوم.
على أن هناك خطوات يمكن اقتراحها لتفعيل صناعة الأفلام لتكون في خدمة الإسلام والمجتمعات الإسلامية، خاصة مع وجود عقبات كبرى في هذا المجال، أولها التمويل لصناعة تلك الأفلام، والخوف من أن لا تعود بالأرباح المرجوة، ومن أهم تلك المقترحات ما يلي:
أولا- انتقاء واختيار الأفلام المنتجة سواء العربية منها والأجنبية والتي تتوافق مع رؤية الإسلام وخدمة قضاياه، خاصة ما يتعلق بالحضارة الإسلامية وقضية فلسطين، وكذلك الأفلام التي تعلي من القيم الإنسانية التي توافق رؤية الإسلام، ويمكن وضعها على قناة من قنوات الإنترنت، أو نشرها على أوسع نطاق، حتى تكون بديلا عن تلك الأفلام الرديئة.
ثانيا- عمل مختصرات لتلك الأفلام، خاصة أن كثيرا من الأفلام وكذلك المسلسلات يدخلها التطويل لطبيعة الأفلام والمسلسلات، فيمكن اختصار الفيلم الذي مدته ساعتان إلا ثلث ساعة تقريبا.
ثالثا- انتقاء مشاهدة قصيرة الزمن، تعالج معنى من المعاني أو قضية من القضايا على غرار ما هو مشتهر في موقع (youtube ).
رابعا- التواصل مع كبار الكتاب والمخرجين والمنتجين، والسعي معهم لإنتاج أفلام تعبر عن ثقافتنا وحضارتنا بعيدا عن الإسفاف الذي لا يمت لديننا ومجتمعاتنا بصلة.
خامسا- التواصل مع بعض رجال الأعمال لفتح قناة أفلام تلتزم ضوابط الإسلام وتراعي القيم الحضارية والإنسانية بعيدا عن السفاهات والتفاهات، وأن جمهور مثل هذه القناة يتعطش لمثل هذه القناة التي تقدم أفلاما لا يستحي الوالد أن يجلس مع أبنائه ليشاهدها، دون أن تخدش الحياء ولا تخالف الدين، وأن تراعي الأعراف والتقاليد التي ورثها الناس في بلاد المسلمين. وأن مثل هذه القناة ستكون مربحة جدا، بل أتوقع أنها ستكون قناة الأفلام الأولى على مستوى قنوات الأفلام في العالم.
سادسا- توجيه بعض أموال الصدقات والوقوف والوصية وغيرها من أموال التبرعات لإنتاج أفلام تخدم قضايا الأمة والمجتمع.
إن أخطر قضية تقابل المسلم اليوم وأمس وغدا هي قضية الوعي، وإن غياب الوعي ليؤخر الأمة عشرات السنوات، في وقت هي أمس ما تكون إلى الوعي بالعالم المحيط وتدابيره وكيفية إدارته، لا أن نجمد عن فكر معين، محافظين في ذلك على ثوابت ديننا، مفرقين بين المقاصد والغايات، آخذين بالقديم النافع، والجديد الصالح؛ راغبين في إصلاح مجتمعاتنا.