هي ثورة اتصال يعيشها العالم، وتتراجع فيها قسوة الجغرافيا أمام التحام غير مسبوق بين أبناء آدم في شتى ربوع الأرض، حيث يفتح المرء حسابه على أي موقع من مواقع التواصل الاجتماعي ليجد أمامه فرصة ذهبية لتشكيل قائمة تضم مئات، وربما آلاف الأصدقاء، ويؤسس لتعارف كوني لا تؤثر فيه المسافات.
بالمقابل تتزايد الشكاوى من هشاشة العلاقات الإنسانية، ومن روابط الصداقة التي تنحل في ظرف وجيز، وربما لأتفه الأسباب. ونطالع كل يوم عشرات التدوينات والتغريدات التي تتأوه من ضربة صديق، أو جفاء صديقة. وكما هائلا من الانفعالات التي تتحدث عن غدر الخلان، وإيثار العزلة على صاحب لا يرعى المودة، وتفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب!
هل يصح أن نسمي كل علاقة بنيت على التجاوب والارتياح النسبي صداقة؟
وكيف يمكن الوثوق بمشاعر افتراضية لم تتعرض لخبرات الواقع؟
أليس لزاما على المرء أن يتقبل الصداقة بكل ما يتخللها من مظاهر الضعف الإنساني، أم هو السعي الزائف خلف أنموذج للكمال؟
عديدة هي الأسئلة التي تكتنف هذا الموضوع بالنظر إلى تمثلات الأفراد حول الصداقة و الصديق. وبالتالي لا يمكن الإجابة عنها إلا من خلال تقريب ماهية الصداقة، والأبعاد الأساسية التي تميزها عن سائر العلاقات الاجتماعية. ولست هنا أعرض للمسألة من داخل دائرة البحث العلمي أو الفلسفي، أي من منظور علم النفس أو الاجتماع، أو حتى النظرية الأخلاقية كما عرضها الفلاسفة، وإنما أستجدي خبرات مبثوثة في بعض المصنفات، حيث يمتزج الانطباع والتأمل بتجارب شخصية، ترسم الإطار المحدد للصداقة الحقة، باعتبارها قيمة مركزية مترسخة في صلب الطبيعة البشرية.
في مشهد من مشاهد الحسرة المؤلمة التي تنتاب أهل النار يوم القيامة، يكتسب الصديق الحميم مكانة مميزة توحي بأهمية تلك الرابطة الاجتماعية. يقول سبحانه وتعالى في سورة الشعراء: ﴿ قالوا وهم فيها يختصمون. تالله إن كنا لفي ضلال مبين. إذ نسويكم برب العالمين. وما أضلنا إلا المجرمون. فمالنا من شافعين. ولا صديق حميم﴾[96-101]. أما الصديق، يقول الزمخشري في معرضه تفسيره، فهو الصادق في ودادك، الذي يُهمه ما يُهمك، والحميم هو القريب الذي يُحزنه ما يُحزنك، فكأنه استوى في الحرقة مع أصل الحميم الذي هو الماء الحار.
إن رابطة بهذه الأهمية يجدر بالعاقل أن يسعى لتأسيسها والحفاظ عليها، ويصونها من تقلبات النفس والدهر. لكن الأمر رهين أولا بإدراك ماهية الصداقة، والأسس التي تنهض عليها بمعزل عن باقي العلاقات الأخرى سريعة الذوبان ! إننا إزاء حاجة أساسية تمثل برأي ميشيل مِتياس أرقى أنماط الحياة الاجتماعية، والشرط الذي لا يمكن الاستغناء عنه للتطور الإنساني، بل يمكن أن نذهب مع مونتين إلى القول بأنها ذروة كمال الحياة الإنسانية.
تنشأ الصداقة في نسيج الفرد كميل طبيعي، لا تستحق الحياة أن تعاش بدونه على حد تعبير الفيلسوف ديموقريطس. فما إن يولد المرء في هذا العالم حتى يشعر بمسيس الحاجة إلى روابط تحقق له البهجة، وتُمده بالسند المعنوي والحافز للعمل والنجاح. تحقق الأسرة نصيبا من ذلك بحسب الإمكانات، قبل أن تبدأ رحلة البحث عن المشاركة الوجدانية، وقدر من التشابه مع الآخرين. وخلال المدى الذي تستغرقه التجربة الإنسانية ينبثق التساؤل حول محددات الصداقة الحقيقية وتجلياتها، ومؤشرات التوافق التي يمكن من خلالها ضبط شبكة العلاقات الاجتماعية لتمييز الصديق الحميم عن غيره من الأدعياء.
أجمل توصيف للقرب الوجداني الذي تنطوي عليه الصداقة هو مقولة أرسطو حين سئل: من الصديق؟ فأجاب: إنسان هو أنت، إلا أنه بالشخص غيرك! فالخصائصالمشتركة، والقربالوجداني، بالإضافة على عامل الثقة، كل هذي العناصر تسهم في تحقيق التوحد الذي يفضي في النهاية إلى الوحدة؛ أو كما قال الأعرابي لصديق: كن ببعضك لي حتى أكون بكلي لك!
ومن محدداتها أيضا تلقائيةالتفاعل، وشعور كل منهما بأنه على طبيعته، ولا يحتاج إلى تنميق خطابه وتصرفاته. وهي تتولد عن فهم كل طرف لشخصية الآخر وتفضيلاته ودوافعه. بمعنى أن تتجاوز الصداقة الحقيقية كل المواضعات الاجتماعية التي ألف الناس من خلالها تزييف حضورهم وسلوكهم تماشيا مع المظهر العام. وهذا المحدد رصده يحيى بن معاذ فأجاد التعبير عنه بقوله : بئس الصديق صديق تحتاج معه إلى المداراة، وبئس الصديق صديق تحتاج أن تقول له: اذكرني في دعائك، وبئس الصديق صديق يُلجئك إلى الاعتذار !
يبدو المطلب صعبا وربما عسير المنال، لذا تتردد في أدبيات المكتبة العربية أقوال مأثورة، تغذي الانطباع باستحالة العثور على صديق حميم، أو النجاح في تشكيل صداقة حقيقية تتحمل نوائب الدهر. فينسب إلى روح بن زنباع قوله لما سئل عن الصديق: هو لفظ بلا معنى، أي شيء عزيز حتى كأنه غير موجود.
ولحكيم حين سئل: أي الناس أطول سفرا؟ قال: من سافر في طلب صديق.
وآخر أمضى عشرين سنة يطلب صديقا إذا غضب لم يقل إلا الحق، فما وجده !
وهذا أبو حيان التوحيدي يهزأ ممن يثني على صديق بالخير فيقول:” وأما الذي قال في أصدقائه وجلسائه الخير، وأثنى عليهم بالجميل، ووصف جده بهم، ودل على محبته لهم فغريب!” وقس على ذلك أمثلة عديدة، تغذي السوداوية والكآبة في مئات الخواطر و التدوينات المبثوثة في مواقع التواصل تحت وطأة الانفعال وسوء التقدير.
يلعب عنصر الزمن دورا مهما في تشكيل الصداقة الحقة. فإلى جانب القرب الوجداني و الخصائص المشتركة، وغيرها من السمات الواردة آنفا، يتطلب الأمر هزات وتجارب مؤلمة في الغالب، تسهم إما في تمتين الرابطة أو تفكيكها. وغالبا ما يكون سبب انحلال الرابطة هو المنفعة والمصلحة، أو اللذة العارضة، في حين أن استمرارها رهين بقدر من التضحية والعطاء والتحمل؛ لذا حين سمع ابن عطاء رجلا يقول: أنا في طلب صديق منذ ثلاثين سنة فلا أجده، قال له: لعلك في طلب صديق تأخذ منه شيئا، ولو طلبت صديقا تعطيه شيئا لوجدت!
يُخلّ الناس بواجبات الصداقة، إما عن جهل بها أو تقليل من أهميتها. ولمّا تنفك الرابطة يُلقون بالتبعة على الزمان وفساد الحال. وأهم تلك الواجبات التي توحي بأنها وليدة تجربة شخصية وتأمل في طباع الناس: كتمان الأسرار، والمواساة في الشدائد، والنصح و المعاتبة، ثم احتمال العيوب التي لا يخلو منها بشر.
إن ما يحدث من اشتباك إنساني، في الحياة اليومية أو على مواقع التواصل الاجتماعي، لا يمكن أن يندرج دائما تحت مسمى الصداقة. فالرغبة في اكتساب قبول الآخرين تدفع المرء للمسايرة، والمبالغة في إرضائهم ولو على حساب القناعات والمبادئ. وهنا يتبدد جوهر الصداقة الحقة أمام صيغ المجاملة الزائدة، والتملق، وتداول عملات زائفة في سوق القيم! ما أحسن قول بلال بن سعد: أخ لك كلما لقيك ذكّرك برؤيته ربك، خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك دينارا!