الدكتور طه العلواني (1935-2016) فقيه وأصولي عراقي جمع بين التكوين الأصولي الشرعي والعلوم الحديثة، وتمكن بفضل ذلك من صوغ مشروع معرفي امتزجت فيه الأصالة بالمعاصرة، وانحاز إليه البعض ورأوا في مشروعه تجديدا للمعرفة الإسلامية ونصابه البعض الآخر العداء بدعوى أنه يمثل تهديدا للتراث وخروجا على ثوابته.
قبسات من السيرة الذاتية
ولد الشيخ بمدينة الفلوجة العراقية عام 1935 لأسرة سنية، وتلقى تعليما دينيا تقليديا بأحد المساجد ثم التحق بجامعة الأزهر لمواصلة تعليمه الجامعي، وفور تخرجه عاد إلى وطنه والتحق بالقوات المسلحة، وشاءت الأقدار أن يكون تعيينه بمكتب الترجمة المجاور لمكتب عبد الكريم قاسم الذي أطاح بالحكم الملكي. ويمكن القول أن هناك حدثين عاصرهما العلواني قد أثرا على مشروعه الفكري وأسهما في توجيه إلى الوجهة التي اتخذها
الأول: الاضطرابات السياسية التي صاحبت الانقلابات العسكرية التي شهدها العراق منذ أواخر الخمسينات وأودت بحياة عدد من الرؤساء العراقيين، وكان العلواني قريبا منها بل وانخرط فيها حين سعى مع بعض الضباط العراقيين من ذوي الميول الإسلامية للتخطيط لانقلاب عسكري، وعلى اثر اكتشاف هذا المخطط اضطر إلى مغادرة وطنه والإقامة بالمملكة السعودية حيث عمل أستاذا للفقه بجامعة الإمام وطوى بذلك صفحة الاشتغال بالعمل السياسي إلى الأبد.
والثاني: إخفاق المشروع الحركي الإسلامي كما عبر عنه عبد القادر عودة وسيد قطب، والذي دفع الأجيال الجديدة من الإسلاميين لاسيما الذين درسوا في الغرب إلى البحث عن مجال جديد يتم فيه التعبير عن الفكرة الإسلامية وهنا برز المجال المعرفي بوصفه مجالا ملائما وجذابا لسببين: تيقنهم أن جوهر المشروع الغربي ليس سياسيا وإنما فكريا وهو ما يفسر استمرار النفوذ الغربي رغم رحيل الاستعمار، ومحاولة انتاج معرفة إسلامية بديلة مع اكتشاف الأسس الوضعية التي تتأسس عليها المعرفة الغربية والتي لا يمكن فصلها عن هذه المعرفة.
في ظل هذا السياق ظهرت فكرة إنشاء كيان مؤسسي إسلامي يضطلع بمهمة نقد المعرفة الغربية وإنتاج معرفة إسلامية، والتي جسدها “المعهد العالمي للفكر الإسلامي” وكان الدكتور العلواني أحد مؤسسيه الأوائل بالإضافة إلى: الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي والدكتور عبد الحميد أبو سليمان والدكتور أنور إبراهيم، وقد احتضنت الدول الإسلامية الأسيوية هذه المجموعة الفكرية الشابة وانعقد أول مؤتمر للمعهد العالمي في باكستان والثاني في ماليزيا، وأفلحت المجموعة في إقامة علاقة وطيدة مع بعض السياسيين الأسيويين مثل الجنرال ضياء الحق رئيس الباكستان، ومحاضير محمد السياسي الماليزي الناجح الذي أشرف على إنشاء “الجامعة الإسلامية العالمية ” في ماليزيا.
ومع إنشاء المعهد العالمي 1984 استقال العلواني من منصبه بجامعة الإمام وغادر إلى الولايات المتحدة حيث شغل منصب مدير الأبحاث، وسرعان ما تولى رئاسته خلفًا للدكتور الفاروقي، وفي أواخر حياته أسس جامعة قرطبة وانكب على مشروعه المتعلق بالدراسات القرآنية وأنتج عدة مؤلفات في هذا الصدد.
هذه المنعطفات الحاسمة التي شهدتها حياة العلواني انعكست جلية على مشروعه الفكري الذي استهله بالاهتمام بالقضايا التي يألفها الشرعيين التقليديين كتحقيق التراث حيث حقق كتاب المحصول للإمام أبي فخر الرازي (1980) وتحقيق كتاب “النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار” للوارداني (1983) وانتهى بمراجعة جذرية للتراث كما تجلى في كتابيه: لا إكراه في الدين (2003)، وإشكالية التعامل مع السنة النبوية (2014).
معالم المشروع الفكري
يدور المشروع الفكري للدكتور العلواني حول عدد من المحاور التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
– الجمع بين القراءتين: وتعني الجمع بين قراءة الوحي (الغيب) وقراءة الكون (الشهادة)، وحسب العلواني فإن أول الذكر الحكيم (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) تضمن أمرا بقراءتين؛ القراءة الأولى هي قراءة الوحي النازل على رسوله وهي قراءة تبدأ من الإنسان ولا تقوم على التلقي والتلقين وحدهما، بل على الأخذ عن الغير أيضا، من سابقين ولاحقين بالمراجعة والمطالعة وقراءة الكتب وكتابتها، وتناقل الخبرات والمعارف بين البشر وعدم الزهد في المعرفة من أي وعاء خرجت والتعامل المنهجي معها، والقراءة الثانية هي قراءة الكون ومحاولة اكتشاف سننه في الآفاق والأنفس، وبحسب العلواني لا يمكن الاقتصار على إحدى القراءتين دون الأخرى لأن ذلك يتعارض مع منهج القرآن الذي يتفاعل فيه الوحي مع الكون في قراءتين متداخلتين تكونان معًا بمثابة قراءة واحدة غير قابلة للفصم.
– حاكمية القرآن وأسبقيته: وتعني أن القرآن الكريم قاض على ما سواه بما في ذلك الأحاديث والآثار؛ فإذا وضع الكتاب الكريم قاعدة عامة – مثل مبدأ “البر والقسط” في علاقة المسلمين بغيرهم – ووردت أحاديث أو آثار يتناقض ظاهرها مع هذا المبدأ: كالمزاحمة في الطريق، أو عدم رد التحية بمثلها أو أحسن منها، تعين الأخذ بما في الكتاب، وتأويل الأحاديث والآثار إن أمكن تأويلها، أو ردها إن لم يُمكن ذلك.
– عالمية الخطاب القرآني: فالخطاب القرآني كما يراه العلواني يخالف خطابات الأنبياء السابقين التي كانت خطابات اصطفائية موجهة إلى أمم وشعوب بعينها، أما الخطاب القرآني؛ فقد تدرج من الرسول- ﷺ- إلى عشيرته الأقربين، إلى أم القرى ومن حولها، ثم إلى الشعوب الأمية كلها، ثم إلى العالم بأسره. وبذلك صار الكتاب الوحيد الذي يستطيع مواجهة الحالة العالميَّة الراهنة، واستنادا إلى ذلك فإن أي خطاب يوجه إلى عالم اليوم لابد أن يقوم على قواعد مشتركة وقيم مشتركة ومنهجية ضابطة، وليس هناك كتاب على وجه الأرض يستطيع أن يوفر هذه الشروط إلا القرآن المجيد ذاته.
– مراجعة التراث والتجديد فيه: اتخذ العلواني موقفا مزدوجا من التراث الفقهي الإسلامي فمن جهة ارتأى ضرورة مراجعة بعض القضايا التراثية كحد الردة، ومن جهة أخرى آمن بضرورة التجديد الفقهي بل طبقه في محاولته وضع أسس “فقه الأقليات” ومعالم منهجيته.
وفيما يخص الأولى ذهب العلواني إلى أنه بعد مراجعة مستفيضة لكل ما يتعلق بمسألة الردة ارتأى أنه ليس هنالك ما يسمى بحد الردة في الإسلام، واستند في ذلك على عدد من الشواهد منها أن القرآن الكريم أكد على الحرية الدينية بنص صريح، وأنه لم يذكر عقوبة دنيوية لمن يفارق دينه، وأن رسوله ﷺ لم يطبق حد الردة، وأن هناك اختلافات بين المذاهب الفقهية حولها، ويخلص العلواني من هذا كله أنه ليس في الإسلام حدًا للردة، وإن القول به جاء نتيجة تغليب العنصر السياسي على الديني.
أما الثانية والمتعلقة بفقه الأقليات ففيها يذهب العلواني إلى أن الفقه الموروث لا يصلح في مجال التنظير المعاصر لعلاقة المسلمين بغيرهم فهو –على ثرائه وتنوعه -قد أصبح جزءًا من التاريخ؛ لأسباب بعضها يتعلق بالمنهج وبعضها الآخر بتحقيق المناط، ومن ثم يصوغ العلواني بعض المحددات المنهجية التي يمكن أن يتأسس عليها هذا الفقه الجديد، ومنها اكتشاف الوحدة البنائية للقرآن، واعتبار عالمية الخطاب القرآني، والإقرار بأن الفقه الموروث ليس مرجعاً للفتوى أو صياغة الحُكْم في مثل هذه الأمور المستحدثة؛ بل هو سوابق في الفتوى وفي القضاء يمكن الاستئناس بها واستخلاص منهجيتها والبناء على ما يصلح البناء عليه منها.
وبالجملة، استطاع العلواني أن يؤسس مشروعا فكريا فريدا جمع بين الأصالة والمعاصرة، ورغم بعض الانتقادات المعرفية التي وجهت إليه إلا أنه يحمل إمكانيات معرفية ومنهجية يمكن الإفادة منها والبناء عليها.