شهر رمضان شهر العبادة، فإذا دخل رمضان عليك وخرج ولم تتغير عبادتك، فأنت أحد رجلين؛ إما عابد قد بلغت الغاية في العبادة في رمضان وغير رمضان، فلم تحتج إلى زيادة، وأحسب أن هذا النوع من الرجال قلما يوجد بين الناس.
وإما رجل لم ينتفع من الشهر، وبقي على تقصيره في العبادة.
وحتى نحقق العبادة في رمضان على أكمل وجه فنحن بحاجة إلى الوقوف مع بعض الحقائق:
أ- شمولية العبادة:
لا تقتصر العبادة على الشعائر الظاهرة من الصلاة والصيام والصدقة ونحوها، وإنما تشمل العبادة كل ما شرعه الله في كتابه أو جاء به رسوله، ولذلك عرفها ابن تيمية رحمه الله بقوله: “العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة” (1). وبناءً على هذا التعريف تدخل العبادة في كل معروف يقوم به المسلم في حياته.
ب- هدي النبي ﷺ في العبادة في رمضان :
من المهم للعُباد أن يتعرفوا على هدي النبي ﷺ في رمضان ليدركوا الفرق في حياة النبي – في رمضان وفي غير رمضان. ونبينا الكريم – كان أعبد الناس ومع ذلك إذا دخل رمضان ازداد من العبادة. قال ابن القيم رحمه الله: ” وكان من هديه – في شهر رمضان الإكثار من العبادات، فكان جبريل عليه الصلاة والسلام يدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح مرسلة، وكان أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف. وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور” (2).
ت- الاقتصار في العبادة على ما شرعه الله:
عندما نتحدث عن العبادة والإكثار منها في رمضان، فإننا لا نعني أن نفتح الباب على مصراعيه بغير ضوابط، بل لابد من ضوابط تضبط لنا هذه العبادة، وإلا كانت من البدع، أو من العبادة المردودة وإن كانت مشروعة، ومن هذه الضوابط: أن تكون العبادة مما شرعه الله وثبت عن رسوله وبالطريقة التي فعلها ، وإلا كانت هذه العبادة من البدع.
ولذلك نبه العلماء على ما يذكر عن بعض العباد في عبادتهم إذا خالفت تلك العبادة هدي النبي ﷺ، كما قال الذهبي: “وقد روي من وجوه متعددة أن أبا بكر بن عياش مكث نحواً من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة. وهذه عبادة يخضع لها، ولكن متابعة السنة أولى. فقد صح أن النبي ﷺ نهى عبدالله بن عمرو أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث. وقال عليه الصلاة والسلام: “لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث” (3).
فالنبي ﷺ لم يرخص لأصحابه في قراءة القرآن في أقل من ثلاث، فإذا فعلها رجل بعدهم لم يمدح بفعله؛ لأنه خالف ما أمر به النبي ﷺ. قال ابن تيمية رحمه الله: “فطاعة الله ورسوله قطب السعادة التي عليها تدور، ومستقر النجاة الذي عنه لا تحور. فإن الله خلق الخلق لعبادته كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِیَعۡبُدُونِ } (الذاريات: 56) وإنما تعبدهم بطاعته وطاعة رسوله، فلا عبادة إلا ما هو واجب أو مستحب في دين الله، وما سوى ذلك فضلال عن سبيله (4).
وعلى هذا فعندما نطالب بالإكثار من العبادة فإنما نطالب المسلم أن يكثر مما شُرع وبالطريقة المشروعة، ما أن يبتدع المسلم عبادة أو طريقة في العبادة بحجة الإكثار من الطاعة في شهر رمضان فإن هذا العمل مردود عليه.
قال ابن تيمية رحمه الله: “العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع فإن الإسلام مبني على أصلين:
أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له.
والثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله – ولا نعبده بالأهواء والبدع “.
قال تعالى : { ثُمَّ جَعَلۡنَـٰكَ عَلَىٰ شَرِیعَةࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَـتَّـبِعۡ أَهۡوَاۤءَ ٱلَّذِینَ لَا یَعۡلَمُونَ * إِنَّهُمۡ لَن یُغۡنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَیۡـࣰٔاۚ وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۖ وَٱللَّهُ وَلِیُّ ٱلۡمُتَّقِینَ } الجاثية، (18 – 19 )وقال تعالى: { أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَـٰۤؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّینِ مَا لَمۡ یَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةُ ٱلۡفَصۡلِ لَقُضِیَ بَيْنَهُمْ ۗ وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ } (الشورى: 21) فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسوله -، من واجب ومستحب، لا نعبده بالأمور المبتدعة)) (5).
فهذا أصل يجب اعتباره، ولا يجوز أن يكون الشيء واجباً ولا مستحبًّا إلا بدليل شرعي يقتضي إيجابه أو استحبابه. والعبادات لا تكون إلا واجبة أو مستحبة، فما ليس بواجب ولا مستحب فليس بعبادة (6).
ومن تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة، وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة فهو ضال مبتدع: بدعة سيئة لا بدعة حسنة باتفاق أئمة الدين، فإن الله لا يُعبد إلا بما هو واجب أو مستحب (7).
ولكن قد يتعذر البعض بأن هذه الطريقة في العبادة وإن كانت لم تفعل على عهد النبي – ولا على عهد أصحابه، إلا أن فيها مصلحة في هذا الزمان، إما أن تكون راجعة على الشخص نفسه، أو أنها من باب مصلحة الدعوة مثلا، فيجتمعون في ليلة من ليالي العشر من رمضان مثلاً فيحيون تلك الليلة بطريقة لم تثبت عن النبي ﷺ .فيقال لهؤلاء لو كانت خيراً ما أغفلها النبي ﷺ ولأرشد إليها.
وقد بين العلماء حكم مثل هذه الطرق المخترعة في العبادة، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وعامة العبادات المبتدعة المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس ويحصل له بها نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها مشروعة، بل لو لم تكن مفسدتها أغلب من مصلحتها لما نهي عنها” (8) .
وأصل هذا: أن العبادات المشروعة التي تتكرر بتكرر الأوقات حتى تصير سننا ومواسم، قد شرع الله منها ما فيه كفاية العباد، فإذا أحدث اجتماع زائد على هذه الاجتماعات معتاد، كان ذلك مضاهاة لما شرعه الله وسنه. وفيه من الفساد ما تقدم التنبيه على بعضه (9).
وأختم الحديث بهذه الوصية الجليلة من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه في هذا الموضوع حيث يقول: “ولا ينبغي لأحد أن يخرج في هذا عما مضت به السنة، وجاءت به الشريعة، ودل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف أمة، وما علمه قال به، وما لم يعلمه أمسك عنه، ولا يقفو ما ليس له به علم، ولا يقول على الله ما لا يعلم، فإن الله قد حرم ذلك كله” (10).
ث – العبادة بين الكم والكيف:
وإذا كنا نطالب المسلم بالإكثار من العبادة في رمضان، فإننا نطالبه كذلك بأداء المشروع من العبادات على الوجه المشروع، فركعتين بخشوع وخضوع وإتمام في الركوع والسجود أفضل من عشر ركعات مستعجلات لا يتم فيها الركوع ولا السجود ولا يدري ما قال فيها، فلُبُّ الصلاة الخشوع، فإذا فوت على نفسه الخشوع لم ينتفع من تلك الصلاة. وهكذا في سائر العبادات.
الهوامش :
(1) ابن تيمية، العبودية 38
(2) ابن القيم، زاد المعاد2٢/ 32
(3) الذهبي، تهذيب سير النبلاء 2/ 675.
(4) ابن تيمية، الفتاوى 1/ 4.
(5) المرجع السابق
(6) المرجع السابق 1 / 80
(7) المرجع السابق 1/ 165
(8) المرجع السابق 1/ 160
(9) ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 759
(10) المرجع السابق 2 / 633
(11) ابن تيمية، الفتاوى 1/ 335