أولاً: مجمل القصَّة

إن مبغضي عثمان بن عفَّان رضي الله عنه كانوا يشنِّعون عليه أنَّه نفى أبا ذرٍّ رضي الله عنه إلى الرَّبَذَة، وزعم بعض المؤرِّخين: أنَّ ابن السَّوداء (عبد الله بن سبأ) لقي أبا ذرٍّ في الشَّام، وأوحى إليه بمذهب القناعة، والزُّهد، ومواساة الفقراء، ووجوب إنفاق المال الزَّائد عن الحاجة، وجعله يعيب معاوية، فأخذه عبادة بن الصَّامت إلى معاوية، وقال له: هذا والله الّذي بعث إليك أبا ذرٍّ. فأخرج معاوية أبا ذرٍّ من الشَّام، وقد حاول أحمد أمين أن يوجد شبهاً بين رأي أبي ذرٍّ، ورأي مَزْدك الفارسيِّ، وقال بأنَّ وجه الشَّبه جاء من أن ابن سبأ كان في اليمن وطوَّف في العراق، وكان الفرس في اليمن، والعراق قبل الإسلام، فمن المحتمل القريب أن يكون قد تلقَّى هذه الفكرة من مزدكيَّة العراق، واعتنقها أبو ذرٍّ حسن النِّيَّة في اعتقادها.

وكلَّ ما قيل في قصَّة أبي ذرٍّ، ممَّا يُشنَّع به على عثمان بن عفَّان باطلٌ لا يُبنى على روايةٍ صحيحةٍ، وكلُّ ما قيل حول اتِّصال أبي ذرٍّ رضي الله عنه بابن السَّوداء باطلٌ لا محالة.

والصَّحيح: أنَّ أبا ذرٍّ رضي الله عنه نزل في الرَّبذة باختياره، وأنَّ ذلك كان بسبب اجتهاد أبي ذرٍّ في فهم آيةٍ خالف فيها الصَّحابة، وأصرَّ على رأيه، فلم يوافقه أحدٌ عليه، فطلب أن ينزل بالرَّبذَة الّتي كان يغدو إليها زمن النَّبيّ (صلى الله عليه وسلم)، ولم يكن نزوله بها نفياً قسريّاً، أو إقامةً جبريَّة، ولم يأمره الخليفة بالرُّجوع عن رأيه؛ لأن له وجهاً مقبولاً، لكنَّه لا يجب على المسلمين الأخذ به، وأصحُّ ما روي في قصَّة أبي ذرٍّ رضي الله عنه ما رواه البخاريُّ في صحيحه عن زيد بن وهبٍ، قال: مررت بالرَّبذة، فإذا أنا بأبي ذرٍّ رضي الله عنه فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشَّام، فاختلفت أنا ومعاوية في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ*} [ التوبة: 34].

قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا، وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها، فكثر عليَّ النَّاس حتَّى كأنَّهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت فكنت قريباً. فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمَّروا عليَّ حبشيّاً؛ لسمعت، وأطعت. وقد أشار هذا الأثر إلى أمورٍ مهمَّةٍ منها:

1- سأله زيد بن وهب، ليتحقَّق ممَّا أشاعه مُبْغِضُو عثمان: هل نفاه عثمان، أو اختار أبو ذرٍّ المكان؟ فجاء سياق الكلام: أنَّه خرج بعد أن كثر النَّاس عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشَّام، وليس في نصِّ الحديث: أنَّ عثمان أمره بالذَّهاب إلى الرَّبَذَة، بل اختارها بنفسه، ويؤيِّد هذا ما ذكره ابن حجر عن عبد الله ابن الصَّامت قال: دخلت مع أبي ذرٍّ على عثمان، فحسر رأسه، فقال: والله ما أنا منهم ـ يعني: الخوارج ـ فقال: إنَّما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة، فقال: لا حاجة لي في ذلك، ائذن لي بالرَّبَذَة. قال: نعم.

2- قوله: (كنت بالشَّام): بيَّن السَّبب في سكناه الشَّام ما أخرجه أبو يعلى عن طريق زيد بن وهب: حدَّثني أبو ذرٍّ، قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إذا بلغ البناء ـ أي: المدينة ـ سَلْعَاً، فارتحل إلى الشَّام». فلمَّا بلغ البناء سلعاً؛ قدمت الشَّام، فسكنت بها، وفي روايةٍ: قالت أمُّ ذرٍّ: والله ما سيَّر عثمان أبا ذرٍّ ـ تعني: إلى الرَّبذة ـ ولكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: إذا بلغ البناء سلعاً، فاخرج منها.

3-إنَّ قصَّة أبي ذرٍّ في المال جاء من اجتهاده في فهم الأية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ*} [التوبة: 34ـ35].

وروى البخاريُّ عن أبي ذرٍّ ما يدلُّ على أنَّه فسَّر الوعيد {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا}، وكان يخوِّف النَّاس به، فعن الأحنف بن قيس، قال: جلستُ إلى ملأٍ من قريش في مسجد المدينة، فجاء رجلٌ خَشِنُ الشَّعر، والثِّياب، والهيئة، حتَّى قام عليهم، فسلَّم، ثمَّ قال: بشِّر الكانزين برَضْفٍ يُحمى عليه في نار جهنَّم، ثمَّ يوضَعُ على حَلَمة ثَدْي أحدهم، حتَّى يخرج من نُغْضي كتفه، ويوضع على نُغض كتفه حتَّى يخرج من حَلَمة ثديه، يتزلزل. ثمَّ ولَّى فجلس إلى ساريةٍ، وتبعتُه، وجلست إليه، وأنا لا أدري من هو، فقلت له: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الّذي قلت. قال: إنَّهم لا يعقلون شيئاً. واستدلَّ أبو ذرٍّ رضي الله عنه بقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ما أحبُّ أنَّ لي مثل أحدٍ ذهباً، أنفقه كُلَّه، إلا ثلاثة دنانير».

4- وقد خالف جمهور الصَّحابة أبا ذرٍّ، وحملوا الوعيد على مانعي الزَّكاة واستدلوا على ذلك بالحديث، الّذي رواه أبو سعيد الخدريُّ، قال: قال النَّبيّ (صلى الله عليه وسلم): «ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقةٌ، وليس فيما دون خمس ذَوْدٍ صدقةٌ، وليس فيما دون خمسة أوسقٍ صدقةٌ». وقال الحافظ ابن حجر: ومفهوم الحديث: أنَّ ما زاد على الخمس ففيه صدقةٌ، ومقتضاه: أنَّ كلَّ مال أخرجت منه الصَّدقة، فلا وعيد على صاحبه، فلا يسمَّى ما يَفْضُل بعد إخراجه الصَّدقة كنزاً.

وقال ابن رشد: فإنَّ ما دون الخمس لا تجب فيه الزَّكاة، وقد عفي عن الحقِّ فيه، فليس بكنز قطعاً، والله قد أثنى على فاعل الزَّكاة، ومن أثني عليه في واجب حقِّ المال لم يلحقه ذمٌّ من جهة ما أثني عليه فيه، وهو المال، قال الحافظ: ويتلخَّص أن يقال: ما لم تجب فيه الصَّدقة لا يسمَّى كنزاً؛ لأنَّه معفوٌ عنه، فليكن ما أخرجت منه الزَّكاة كذلك؛ لأنَّه عفي عنه بإخراج ما وجب منه، فلا يسمَّى كنزاً. وقال ابن عبد البرِّ: والجمهور على أنَّ الكنز المذموم ما لم تؤدَّ زكاته، ويشهد له حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «إذا أدَّيت زكاة مالك؛ فقد قضيت ما عليك». ولم يخالف في ذلك إلا طائفةٌ من أهل الزُّهد كأبي ذرٍّ.

5-لعلَّ ممَّا يفسر مذهب أبي ذرٍّ في الإنفاق، ما رواه الإمام أحمد عن شدَّاد ابن أوسٍ، قال: كان أبو ذرٍّ يسمع الحديث من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيه الشِّدَّة، ثمَّ يخرج إلى قومه، يسلِّم لعلَّه يشدِّد عليهم، ثمَّ إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرخِّص فيه بعد، فلم يسمعه أبو ذرٍّ، فيتعلَّق أبو ذرٍّ بالأمر الشَّديد.

6-قوله: إن شئت؛ تنحَّيت، فكنت قريباً؛ يدلُّ على أنَّ عثمان طلب من أبي ذر أن يتنحَّى عن المدينة، برفقٍ، ولم يأمره، ولم يحدِّد له المكان الّذي يخرج إليه، ولو رفض أبو ذرٍّ الخروج ما أجبره عثمان على ذلك، ولكنَّ أبا ذر كان مطيعاً للخليفة؛ لأنَّه قال في نهاية الحديث: لو أمَّروا عليَّ حبشيّاً؛ لسمعت، وأطعت. وممَّا يدلُّ على أنَّه يمقت الفتنة، والخروج على الإمام المبايع ما رواه ابن سعدٍ في أنَّ ناساً من أهل الكوفة قالوا لأبي ذرٍّ وهو بالرَّبَذَة: إنَّ هذا الرَّجل فعل بك، وفعل، هل أنت ناصبٌ له رايةً ـ يعني: مقاتله ـ ؟ فقال: لا! لو أنَّ عثمان سيَّرني من المشرق إلى المغرب؛ لسمعت وأطعت.

7- السَّبب في تنحِّي أبي ذرٍّ عن المدينة، أو طلب عثمان منه ذلك: أنَّ الفتنة بدأت تطلُّ برأسها في الأقاليم، وأشاع المبغضون الأقاويل الملفَّقة، وأرادوا أن يستفيدوا من إنكار أبي ذرٍّ متعلِّقاً برأيه، ومذهبه، ولا يريد أن يفارقه، فرأى عثمان رضي الله عنه تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة ؛ لأنَّ في بقاء أبي ذرٍّ بالمدينة مصلحةً كبيرة من بثِّ علمه في طلاب العلم، ومع ذلك فرجح عند عثمان دفع ما يتوقَّع من المفسدة من الأخذ بمذهبه الشَّديد في هذه المسألة.

8- قال أبو بكر بن العربيِّ: كان أبو ذرٍّ زاهداً، ويرى النَّاس يتَّسعون في المراكب، والملابس حين وجدوا، فينكر ذلك عليهم، ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم؛ وهو غير لازمٍ، فوقع بين أبي ذرٍّ ومعاوية كلامٌ بالشَّام، فخرج إلى المدينة، فاجتمع إليه النَّاس، فجعل يسلك تلك الطُّرق، فقال له عثمان: لو اعتزلت. معناه: أنَّك على مذهبٍ لا يصلح لمخالطة النَّاس. ومن كان على طريقة أبي ذرٍّ فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط النَّاس، ويسلم لكلِّ أحدٍ حاله ممَّا ليس بحرامٍ في الشَّريعة، فخرج زاهداً فاضلاً، وترك جلَّةً فضلاء، وكلٌّ على خيرٍ، وبركةٍ، وفضلٍ، وحال أبي ذرٍّ أفضل، ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كانوا عليها، لهلكوا؛ فسبحان مرتِّب المنازل!

وقال ابن العربيِّ: ووقع بين أبي الدَّرداء ومعاوية كلامٌ، وكان أبو الدَّرداء زاهداً، فاضلاً، قاضياً لهم (في الشَّام)، فلمَّا اشتدَّ في الحقِّ، وأخرج طريقة عمر بن الخطَّاب في قومٍ لم يحتملوها؛ عزلوه، فخرج إلى المدينة، وهذه كلُّها مصالح لا تقدح في الدِّين، ولا تؤثِّر في منزلة أحدٍ من المسلمين بحالٍ، وأبو الدَّرداء، وأبو ذرٍّ بريئان من كلِّ عيبٍ، وعثمان بريءٌ أعظم براءةٍ، وأكثر نزاهةٍ، فمن روى أنَّه نفى، وروى سبباً فهو كلُّه باطلٌ.

9- ولم يقل أحدٌ من الصَّحابة لأبي ذرٍّ: إنه أخطأ في رأيه؛ لأنَّه مذهب محمودٌ لمن يقدر عليه، ولم يأمر عثمان أبا ذرٍّ بالرُّجوع عن مذهبه، وإنَّما طلب منه أن يكفَّ عن الإنكار على النَّاس ما هم فيه من المتاع الحلال…، ومن روى: أنَّ عثمان نهى أبا ذرٍّ عن الفتيا مطلقاً، لم تصل روايته إلى درجة الخبر الصَّحيح. والّذي صحَّ عند البخاريِّ: أن أبا ذرٍّ قال: لو وضعتم الصَّمصامة على هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثم ظننت أنِّي أُنفذُ كلمةً سمعتها من النَّبيّ (صلى الله عليه وسلم) قبل أن تجيزوا عليَّ؛ لأنفذتها. وفي البخاريِّ: لم يرو: أنَّ عثمان نهى أبا ذرٍّ عن الفتيا؛ لأنَّ نهي الصَّحابيِّ عن الفتيا دون تحديد الموضوع أمرٌ ليس بالهيِّن.

10- ولو كان عثمان نهاه عن الفتيا مطلقاً؛ لاختار له مكاناً لا يرى فيه النَّاس أو حبسه في المدينة، أو منعه دخول المدينة، ولكن أذن له بالنُّزول في منزلٍ يكثر مرور النَّاس به؛ لأنَّ الرَّبذة كانت منزلاً من منازل الحاجِّ العراقيِّ، وكان أبو ذرٍّ يتعاهد المدينة، يصلِّي في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وقال له عثمان: لو تنحَّيت فكنت قريباً. والرَّبذة ليست بعيدةً عن المدينة، وكان يجاورها حِمَى الرَّبذة؛ الّذي ترعى به إبل الصَّدقة، ولذلك يروى: أنَّ عثمان أقطعه صرمةً من إبل الصَّدقة، وأعطاه مملوكين، وأجرى عليه رزقاً. وكانت الرَّبذة أحسن المنازل في طريق مكَّة.

وبعد أن ذكر الإمام الطَّبريُّ الأخبار الّتي تفيد اعتزال أبي ذرٍّ من تلقاء نفسه، قال: وأمَّا الآخرون؛ فإنَّهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرةً، وأموراً شنيعةً، كرهت ذكرها.

إنَّ الحقيقة التَّاريخية تقول: إنَّ عثمان رضي الله عنه لم ينف أبا ذرٍّ رضي الله عنه، إنَّما استأذنه، فأذن له، ولكنَّ أعداء عثمان رضي الله عنه كانوا يشيعون عليه بأنَّه نفاه، ولذلك لمَّا سأل غالب القطَّان، الحسن البصريَّ: عثمان أخرج أبا ذرٍّ؟ قال الحسن: لا، معاذ الله! وكلُّ ما روي في أنَّ عثمان نفاه إلى الرَّبذة فإنَّه ضعيفُ الإسناد، لا يخلو من علَّةٍ قادحةٍ، مع ما في متنه من نكارةٍ لمخالفته للمرويَّات الصَّحيحة، والحسنة، الّتي تبيِّن أنَّ أبا ذرٍّ استأذن للخروج إلى الرَّبَذَة، وأنَّ عثمان أذن له، بل إنَّ عثمان أرسل يطلبه من الشَّام، ليجاوره بالمدينة، فقد قال له عندما قدم من الشَّام: إنا أرسلنا إليك لخيرٍ، لتجاورنا بالمدينة. وقال له أيضاً: كن عندي، تغدو عليك، وتروح اللِّقاح. أفمن يقول ذلك له ينفيه؟!

وفي بطلان تأثير ابن سبأ على أبي ذر رضي الله عنه، فقد ورد في صحيح البخاريِّ الحديث الّذي يشير إلى أصل الخلاف بين أبي ذرٍّ ومعاوية، وليس فيه الإشارة من قريب أو بعيدٍ إلى ابن سبأ. إنَّ أبا ذرٍّ رضي الله عنه لم يتأثَّر لا من قريبٍ، ولا من بعيدٍ باراء عبد الله بن سبأ اليهوديِّ، وقد أقام بالرَّبذة حتَّى توفِّي، ولم يحضر شيئاً ممَّا وقع في الفتن، ثمَّ هو قد روى حديثاً من أحاديث النَّهي عن الدُّخول في الفتنة.

ثانياً: وفاة أبي ذرٍّ رضي الله عنه وضمُّ عثمان عياله إلى عياله

في غزوة تبوك قيل لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): قد تخلَّف أبو ذرٍّ، وأبطأ به بعيره. فقال: دعوه، فإن يك فيه خيرٌ فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك، فقد أراحكم الله منه، وتلوَّم أبو ذرٍّ على بعيره، فلمَّا أبطأ عليه، أخذ متاعه، فحمله على ظهره، ثمَّ خرج يتَّبع أثر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ماشياً، ونزل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في بعض منازله، فنظر ناظرٌ من المسلمين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): كن أبا ذرٍّ.

فلمَّا تأمَّله القوم قالوا: يا رسول الله! هو والله أبو ذرٍّ! فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): « رحم الله أبا ذرٍّ، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده». ومضى الزَّمان وجاء عهد عثمان، وأقام أبو ذرٍّ في الرَّبذة، فلمَّا حضرته الوفاة أوصى امرأته، وغلامه: إذا متُّ؛ فاغسلاني وكفِّناني، ثمَّ احملاني فضعاني على قارعة الطَّريق، فأوَّل ركبٍ يمرُّون بكم، فقولوا: هذا أبو ذرٍّ. فلمَّا مات؛ فعلوا به كذلك، فطلع ركبٌ فما علموا به حتَّى كادت ركائبهم تطأ سريره، فإذا ابن مسعودٍ في رهطٍ من أهل الكوفة، فقال: ما هذا؟ فقيل: جنازة أبي ذرٍّ، فاستهلَّ ابن مسعود يبكي، فقال: صدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «يرحم الله أبا ذرٍّ! يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده».

فغسَّلوه وكفَّنوه وصلَّوا عليه، ودفنوه، فلمَّا أرادوا أن يرتحلوا قالت لهم ابنته: إنَّ أبا ذر يقرأ عليكم السَّلام، وأقسم ألا تركبوا حتى تأكلوا، ففعلوا، وحملوهم حتَّى أقدموهم إلى مكَّة، ونعوه إلى عثمان رضي الله عنه، فضم ابنته إلى عياله. وجاء في روايةٍ.. فلمَّا دفنَّاه؛ دعتنا إلى الطَّعام، وأردنا احتمالها، فقال ابن مسعود: أمير المؤمنين قريبٌ، نستأمره، فقدمنا مكَّة، فأخبرناه الخبر، فقال: يرحم الله أبا ذر! ويغفر له نزوله الرَّبَذَة، ولمَّا صدر؛ خرج، فأخذ طريق الرَّبَذة، فضمَّ عياله إلى عياله، وتوجَّه نحو المدينة، وتوجَّهنا نحو العراق.


1. علي محمد الصلابي، عثمان بن عفان؛ شخصيته وعصره، دار ابن كثير، بيروت، ص. ص 413 – 425.

2. فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، 1/ 107.

3. سير أعلام النبلاء، 2/ 72.