يؤكد د.محمد عابد الجابري رحمه الله مركزية عصر التدوين في تاريخ وحاضر الفكر العربي، بل ويعتبره (الإطار المرجعي) لذلك الفكر، تلك المرجعية التي لم تكن دائما في مصلحة العقل العربي الذي ظل مشدودا إلى ذلك العصر غير قادر على تجاوزه أو تكييفه، مقررا أن” العقل العربي هو البنية الذهنية الثاوية في الثقافة العربية كما تشكلت في عصر التدوين”.
وقد احتفى الجابري بمخرجات عصر التدوين في جوانبها الفكرية والمنهجية ورأى فيها عبقرية واضحة استطاعت أن تبني ثقافة عربية إسلامية مستقلة قادرة على منافسة بل والتفوق على الثقافة اليونانية التي كانت النموذج في التنظير والتقعيد.
وفي فصل بعنوان:(عصر التدوين الإطار المرجعي للفكر العربي) ضمن كتابه( تكوين العقل العربي ) يناقش الجابري هذه المرجعية من عدة زوايا أولها زاوية قوة الأسر الفكري التي يقوم بها ذلك العصر لكل العصور العربية اللاحقة، التي أصبح لها بمثابة نقط الاستناد التي يقيس راكب سفينة الفضاء الأشياء إليها، أو بمثابة بساط يمسك بواسطة الخيوط التي تؤلفه جميع الأشياء الموضوعة فوقه ليشدها إلى حافته، يقول الجابري:
“عصر التدوين بالنسبة للثقافة العربية هو بمثابة هذه (الحافة) ـ الأساس. إنه الإطار المرجعي الذي يشد إليه وبخيوط من حديد جميع فروع هذه الثقافة، وينظم جيمع تموجاتها اللاحقة” تكوين العقل العربي ص 62.
بل ويذهب الجابري أبعد من ذلك حيث يرى أن عصر التدوين لم يرسم فقط مسار العقل العربي فيما بعد بل إنه أيضا رسم صورة مساره التاريخي الذي سبقه (العصر الجاهلي ـ صدر الإسلام ـ معظم عصر بني أمية)، يقول:
“إن عصر التدوين هذا، كما بينا ذلك في الفقرة السابقة، هو في ذات الوقت الإطار المرجعي الذي يتحدد به ما قبله، فصورة العصر الجاهلي وصورة صدر الإسلام والقسم الأعظم من العصر الأموي إنما نسجتها خيوط منبعثة من عصر التدوين، وليس العقل العربي في واقع الأمر شيئا آخر غير هذه الخيوط بالذات، التي امتدت إلى ما قبل فصنعت صورته في الوعي العربي، وامتدت إلى ما بعد لتصنع الواقع الفكري الثقافي العام في الثقافة العربية العامة، وبالتالي مظهرا أساسيا من مظاهرها”ص62
ورغم أن الجابري بدأ هذا الفصل بانتقاد تشكيك طه حسين في ما ينسب للعصر الجاهلي فإنه في المحصلة تواشج مع رأيه لدرجة يصعب إدراك الفرق بينهما في هذه المسألة.
هناك مسألة أخرى مهمة ناقشها الجابري في هذا الفصل وهي تأثير المواقف السياسية في حركة ومسار التدوين، ويظهر ذلك ـ حسب الجابري ـ في تجاهل كل من السنة والشيعة للإنتاج الثقافي للآخر، وفي تحليله لنص أورده الذهبي عن المسار الجغرافي للتدوين ينبه الجابري إلى أن الذهبي تجاهل عمدا تدوين العلم وتبويبه لدى الشيعة كما تجاهل الشيعة تدوين العلم وتبويبه لدى السنة، وقبل أن نعلق على خطر هذا التجاهل المتبادل وأثره السيء في تكوين العقل العربي نورد نص الذهبي:
قال الذهبي: في سنة ثلاث وأربعين و(مائة) شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير، فصنف ابن جريج بمكة، ومالك الموطأ بالمدينة، والأوزاعي بالشام، وابن أبي عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة ومعمر باليمن، وسفيان الثوري بالكوفة، وصنف ابن إسحاق في المغازي، وصنف أبو حنيفة رحمه الله الفقه والرأي، ثم بعد يسير صنف هشيم والليث وابن لهيعة ثم ابن المبارك وأبو يوسف وابن وهب. وكثر تدوين العلم وتبويبه، ودونت كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس. وقبل هذا العصر كان الناس يتكلمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة” تاريخ الخلفاء للسيوطي ص416
إن الذهبي رغم استقصائه في ذكر الأمثلة أشخاصا وأماكن فإنه لم يتطرق لما ألفه فقهاء ومنظرو المذهب الشيعي آنذاك، رغم أن جعفرا الصادق الإمام الشيعي الأكبر قد توفي سنة 148هـ، وكان تم في زمنه وبإشراف منه تنظيم الفكر الشيعي وصياغة قضاياه الأساسية صياغة نظرية.
إن التدافع السياسي بين السنة والشيعة دفع كل واحد منهما لتجاهل ما سطره خصمه، مما يعني أن جانبا أساسيا من الفكر تاريخ الفكر العربي الإسلامي سيغيب عن الأفق السني، الأفق الذي ظل يشكل المنظور الرسمي في معظم البلاد العربية، وكذلك الشأن بالنسبة للأفق الشيعي الذي ستغيب عنه كل معطيات ومخرجات ما سطره أهل السنة.
وقد أخذ هذا الصراع السني الشيعي على أرضية الفكر ـ حسب الجابري ـ بعدا آخر تمثل في ما أسماه المؤلف ظاهرة (التسابق إلى ما قبل) في الجدل السني الشيعي حول صحة (علم) كل منهما، وفي سياق هذا التسابق رجع أهل السنة بتدوين الحديث إلى زمن عمر بن عبد العزيز وفي هذا الصدد تروى أخبار أن عمر بن عبد العزيز أرسل إلى أهل الآفاق أن”انظروا إلى حديث رسول الله ﷺ فاجمعوه”، وقد رد الشيعة على ذلك بأن ردوا بداية تدوين الحديث إلى زمن النبي ﷺ والصحابة الأوائل.
تلك مسائل أثارها الجابري في الفصل المذكور، وناقشها بأسلوبها العقلاني السلس، ورغم ما في تفصيلاتها من أسئلة مرتدة على الكاتب إلا أنها في مجملها الكلي أكدت فكرة مركزية مهمة وهي أن العقل العربي سيظل مرتبكا ما لم يقم بمراجعة تتغيا التحيين والموائمة بين الفكرة والزمان، وهو ما يتطلب إعادة النظر في مخرجات عصر التدوين بطريقة تعتمد إعادة الترتيب والتبويب والتوجيه، لا الهدم والإزالة.