كتاب “عصر مظلم جديد : التقنية والمعرفة ونهاية المستقبل” [1] للصحفي والكاتب البريطاني “جيمس برايدل” James Bridle صرخة في وجه الآلة والتقنية التي باتت تأخذ مكان الإنسان في الحياة بكافة مستوياتها وتجلياتها، وصارت تحاصره، وتطرده من مجالاته التي اختص بها، حتى صار الاستثمار في الآلة والتقنية أكثر جذبا من البشر.
الكتاب مكتنز بالتفاصيل والحكايات والأرقام حول التوسع المفرط للتقنية، وهو ما يبشر بأن المستقبل سيكون للآلة ذات التقنية العالية، التي ربما تستخدم البشر، وهو ما ينذر بمستقبل أكثر قسوة من الحاضر، غير أن “برايدل” في صرخته التحذيرية من ترك المستقبل لتنفرد الآلة بصناعته، أطلق الكثير من الشكوك في قدرة التقنية، التي رغم وفرة المعلومات، إلا أنها تبدو في الكثير من الأحيان عاجزة، وأقل كفاءة، وأكثر خطرا على الإنسان في حال الخطأ الذي ينذر بكوارث مفزعة.
التفكير الحوسبي
التقنية غيرت المجتمعات والحياة، لكنها أخفقت في تغيير فهمنا للأشياء، فهي عززت قدرات البشر، واستطاعت أن تشكلها وتوجهها نحو الأفضل أو الأسوأ، لذا فالجميع متورط في استخدامها والارتكان عليها، وهو ما يفسر الإلحاح على تعلم البرمجيات، باعتبارها وظيفة المستقبل، لكن تعلم البرمجيات غير كاف للولوج للمستقبل، فالإيمان بهذه الفكرة وحدها يقود إلى ما يمكن تسميته بـ”التفكير الحوسبي” Computational thinking وهو الاعتقاد أنه يمكن حل أي مشكلة عن طريق تطبيق الحوسبة، وهذا النوع من التفكير يطغى على العالم اليوم، وهو ما أوجد صدعا في فهم المجتمعات القائمة، كما أن الأفكار التي يمتلكها الكثير من البشر عن التقنية الحاسوبية تتسم بالضبابية الشديدة، فالتقنية خاضعة لسيطرة حفنة قليلة من السياسيين والاقتصاديين والمبرمجين، ومن ثم فالاستخدام المفرط لا يوزايه فهما عميقا، ولكن اعتماد متزايد فقط، فالتقنية تتشكل وفق جغرافيا النفوذ والتأثر، وهو ما أوقع الكثير من البشر في فخ “التفكير الحوسبي” .
كان ينظر إلى الانترنت في بداياتها على أنها مسار لتنوير العالم، لكن مع ضخامة ما تبثه وتخزنه من معلومات ومعرفة، فإن تلك الميزة أوجدت نوعا من العتمة، بعدما تغيرت الطريقة التي كنا نفهم بها العالم ونفكر من خلالها، فباتت الآلات ذات التقنية العالية هي التي تقرر مصيرنا، وهو ما يفرض البحث عن مسار نحافظ به على ذواتنا من التلاشي والذوبان، خاصة وأن الأصوات التي تدعو لفهم التقنية وتأثيراتها قليلة ومحاصرة، فالتقنية أصبحت تتمثل بمقولة: “المرء حين يمسك مطرقة فإن كل ما حوله يبدو مسامير” وهكذا غدا الممسكون بالتقنية الرقمية يرون الجميع نقاطا مضيئة على لوحة عظيمة يتم التحكم فيهم، وتلك الحالة قد تمثل أزمة وجودية في المستقبل.
والواقع أن التفكير من خلال الآلات يسبق الآلات نفسها، فالحواسب يتم تغذية أغلبها بـ”الماضي” وشواهده، ومطلوب منها أن تفكر للإنسان في مستقبله، واستمرار هذه الرؤية ذو خطورة على المستقبل، وضرب “برايدل” أمثلة كثيرة على تلك الفكرة منها الطقس والمناخ، فالاعتقاد بأن الحوسبة ستجعل العالم أكفأ وأوضح، وأنها ستقلص التعقيد وستعزز فعالية الإنسان، هي فكرة غير صحيحة بالكامل، فالتقنية الرقمية ركزت السلطة تركيزا كبيرا داخل نطاق ضيق جدا من أهل الخبرة، وهؤلاء بنوا رهبة من مساعي فهمها، وكما يصفهم “برايدل” بأنهم “كهنة التفكير الحوسبي” الذين يتحكمون في العالم، وضرب عدة أمثلة بذلك ومنها العام 1983 عندما أتاح الرئيس الأمريكي “ريجان” استخدام تقنية “GPS” للاستخدام المدني، ومع مرور الزمن أخذ الاعتماد على “GPS” يتزايد في كل المجالات اليومية، لكن ما لا يعلمه الكثير أن من يتحكم في إشارة “GPS”، هو الولايات المتحدة، ويمكنها حرمان أي منطقة من إشارات “GPS” ، كما يمكنها التلاعب في تلك الإشارات، كما أن النظام نفسه فيه قدر من الأخطاء تؤدي إلى حواداث وتيه.
أما ما يتعلق بالحوسبة والثقافة، فيؤكد “برايدل” أن الحوسبة قد لا تعزز الثقافة، وضرب مثالا بـGoogle التي تصدت لفهرسة المعرفة الإنسانية وباتت وسيطا ومصدرا لتلك المعرفة، وfacebook التي باتت ترسم الخريطة والروابط الاجتماعية، لكن يعود فيؤكد أن رغم عمليات التأقلم التي نراها مع التقنية، إلا أن هناك عدم شفافية وتعقيد يجعل الحوسبة عملية محصورة في حفنة قيلة، كذلك فإن الحوسبة ليست محايدة كما يظن الكثير، إذ أن من يتحكم في مئات الملايين من الشاشات أشخاص قليلون وأجهزة في أماكن غير معروفة تغيب فيها الشفافية، وتلك الحالة ترسخ فكرة الإيمان المتعاظم بالآلة، وتولد شعورا بـ”الانحياز للآلة” automation bias، حيث تُثمن المعلومات المرقمنة أكثر بكثير من المعلومات المستندة إلى الخبرات البشرية، لذا باتت وجهة نظر الآلة المؤتمتة أكثر جذبا للانتباه من وجه نظر الشخص، وبات الانحياز للآلة هو الأساس، هذا التفويض الإنساني للآلة يخلق نوعا من الأزمات؛ بل والعمى عن إدارك العجز في الآلة ذاتها، إذ يعني الإنحياز للآلة هو الثقة أنها لن تتعطل أبدا، وهذه فرضية لن تتحقق.
الامتداد للدماغ
يؤكد “برايدل” أن الانحياز للآلة يمتد إلى الدماغ البشري نفسه، فالبشر عندما يواجهون مشكلة ما معقدة، وفي ظل ضيق الوقت، مع عدم رغبتهم في الانخراط في أي جهد معرفي، فإنهم يفضلون الاستراتيجيات السهلة، ويعتبر طريق الآلة هو الأقصر، وبذلك ينقلون مسؤولية اتخاذ القرار إلى الحوسبة، ومع تشعب الحياة تتغلغل الآلة فيما ليس لها، وهو مسئولية اتخاذ القرار، وهو ما يعزز سلطتها على الإنسان، وبذلك يقل فهم الإنسان للعالم من حوله، بعدما حلت الحوسبة مكان الفكر الواعي، ويسير التفكير الإنساني في المضمار الآلي، وربما لا نفكر إلا قليلا.
يشير “برايدل” أن الحوسبة صارت أساسا للفكر الإنساني، بعدما أصبحت أكثر إغراءا، حتى صرنا نستخدمها حتى في الأشياء البسيطة المعتادة، وصار استخدامها يتم بشكل عفوي، فمثلا أصبح الشخص يفصل كتابة رسالة نصية عن الكلام، وهنا أوكل للحوسبة وفوض لها الكثير من مهامه المعرفية والاجتماعية، وهو ما عزز الحوسبة على حساب الدماغ والمعرفة، لكن “برايدل” يشير إلى مسألة مهمة وهي أن الحوسبة لا تسيطر على حاضرنا، ولكنها تقفز للمستقبل لصياغته، رغم أن الحوسبة تعتمد في جزء كبير من بناءها على مدخلات الماضي، وهو ما يجعل المستقبل محكوما بقدر ما بالماضي، إذ تطرح الحوسبة مستقبلا أشبه بالماضي.
يؤكد “برايدل” أن الحوسبة انتصرت لأنها أغرت الإنسان منذ لحظتها الأولى، بقدرتها على حل الكثير من مشكلاته، كما أنها أربكته بتعقيداتها، وجعلت القليل هم من يعرف أسرارها، كما أنها بهرته بنتائجها، فلم يجد الإنسان أمامه إلا التفويض لها والسماح لها بأن تكون جزءا من حياته؛ بل والمسيطرة عليها.
ومع نمو البنية الرقمية التحتية يتزايد استهلاك الطاقة، ويتسبب ذلك في مشكلات بيئية ومناخية، ففي دراسة يابانية أكدت أن متطلبات الخدمة الرقمية وحدها من الطاقة بحلول عام 2030م سيتجاوز قدرة الدولة الحالية على الانتاج، وتشير دراسات أخرى أن العملات الرقمية “البيتكوين” تستهلك نسبة عالية من الطاقة الاستهلاكية للكهرباء في المنازل الأمريكية من أجل تنفيذ صفقة تداول واحدة، وفي دراسة ثالثة ذكرت أن شحن جهاز لوحي أو هاتف ذكي لا يتطلب قدرا كبيرا من الكهرباء، لكن استخدام أي منهما في مشاهدة فيديو مدته ساعة واحدة كل أسبوع يستنزف سنويا بالشبكات البعيدة كهرباء تتعدى ما تستهلكه ثلاجتان طوال عام كامل، وهنا تصبح الصورة الرقمية أكبر كلفة وأكثر تدميرا للطاقة مع توسع نطاقها عالميا.
[1] الكتاب صدر عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت، العدد (497) أغسطس 2022، ترجمة مجدي عبد المجيد خاطر، ويقع الكتاب في 312 صفحة