علم الأديان، هو العلم الذي يبحث في موضوع الأديان من حيث ماهيتها ووظيفتها وتاريخها ورجالاتها وطقوسها، ولا شك أن نزعة التدين في الإنسان متجذرة في طبعه، فهو يحتاج إلى قوة عليا يستند إليها ويصمد، خصوصًا حين يحس بالضعف والعجز عن مواجهة التحديات التي يصادفها في حياته. ويجد الإنسان في نفسه أن قوته العاقلة تلح عليه بأسئلة الوجود، فهو يتساءل عن سبب وجوده ومآله باذلاً كل ما يمتلكه من قدرات للإجابة عن أسئلته.

والتقسيم المنطقي لأسئلته الوجودية يقضي بافتراض جوابين اثنين لا ثالث لهم، إما أن هذا الكون وُجد من عدم بقوة من القوى، أو أنه وجد صدفة.

فإن وجد صدفة فإن هذا يصطدم مع ما يلاحظه من بديع الخلق ودقة التنظيم المحكم الذي ينفي بشدة فرضية الصدفة، لأن الصدفة تعني أن هذا الكون عبثي وهو في وجوده يقوم على نواميس وقواعد لا تتخلف.

وإن لم يوجد صدفة فهو بلا شك صادر عن قوة عظمى أحاطت بكل شيء علمًا وقدرة.

يقوم الفكر الديني على إعطاء تفسيرات لهذه القدرة المطلقة التي أوجدت الحياة على ما هي عليه.

فإذا ما اتفق الناس على صحة الفكرة الدينية وصحة وجود مبدع للأكوان والحياة فدبر أرزاقها وأقواتها، فأي دين هو الأليق بأن يتبعه الانسان، وهو ما يجعل العقل يقضي بقسمة ثلاثية فالدين إما دين حق أو دين باطل أو إن كل دين فهو حق.

ومع اعتقادنا بفكرة وجود الدين الحق إلا أننا في البحث العلمي لا يمكننا إغفال باقي النظريات.

تشترك الأديان كلها في كونها تتجه نحو قدرة مطلقة يطلق عليها اسم الله.

فصاحب هذه القدرة هو الوحيد الذي أطلق عليه هذا الاسم، وهو يدل على عظمة صاحبه لاتصافه بأوصاف الكمال والجلال.

يقوم علم الأديان على محاولة التعرف على الأديان من حيث النشأة التاريخ والموضوع، وهو يشترك مع علم الأنثروبولوجيا – الباحث في ماهية الانسان – على اعتبار أن الدين من أهم ما اتصف به الانسان في تاريخ وجوده.

يذكر الباحثون في علم الأديان أن هناك أديانًا وضعية وأديانًا إلهية، فكونها وضعية أي من وضع الانسان نفسه، وكونها إلهية فهي من القوة المطلقة- الله (انظر سامي النشار: نشأة الدين. عبد الله دراز: الدين بحوث في تاريخ الأديان. إسماعيل الفاروقي: أطلس الأديان).

وقد أسهم علماء المسلمين بشكل واضح في محاولة معالجة الظاهرة الدينية من وجهات متعددة اتخذت مقاربات تاريخية فلسفية ومقاربات دينية من حيث الدين في نفس الأمر.

فنجد العلامة الشافعي والمؤرخ الجغرافي أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (٣٤٦- ٩٤٥) من العلماء الذين اهتموا بوصف الظاهرة الدينية في كتابيه “الاشراف والتنبيه” و”مروج الذهب ومعادن الجوهر”، وقد اتسم منهج المسعودي بدقة الوصف للأمم والأديان التي شاهدها عبر رحلاته المتنوعة في بقاع العالم، ومثله ابن صاعد الأندلسي (٤٦٢- ١٠٩٢) الذي خصص فصلا من كتابه طبقات الأمم للحديث عن علم الملل والأديان والمعتقدات حيث أعطى مقاربته لهذا العلم وصلته بالتاريخ الانساني، كما سطر ابن صاعد في كتابه حديثا عن علماء الأندلس من الديانات التوحيدية غير الأسلام كاليهودية والنصرانية.

كما نجد أيضا الأشعري وأبا الحسن العامري وابن حزم والجاحظ وابن تيمية وغيرهم من علماء المسلمين قد أسهموا في التأصيل لهذا العلم في تاريخ الحضارة الإسلامية، من خلال ما كتبوه من دراسات وصفية، ومن خلال المناظرات والحوارات التي أرخوا لها وأقاموها مع أرباب الملل والديانات.

وهو ما يعكس الحوار الذي قام بين أصحاب الديانات والملل في العصور الاسلامية المزدهرة.

يتفق مؤرخو العلوم على أن علم الأديان علم أصيل في تاريخ الحضارة الاسلامية، فهو وإن لم يعرف بهذا الاسم في المدونات التراثية إلا أنه كان حاضرا في المدونات الكلامية من خلال الردود والمناظرات الكلامية، ونجد كبار المتكلمين كالأشعري (مقالات غير الاسلاميين)، والجاحظ (الرد على النصارى)، والقاضي عبد الجبار (تثبيت دلائل النبوة)، وابن حزم الأندلسي (الفصل في الملل والنحل)، وغيرهم من العلماء الذين أفردوا رسائل وكتب في الجدل الديني بين الاسلام وباقي الديانات، انطلاقًا من فرضية الدين الخاتم الذي أتى بها الإسلام؛ حيث نسخت شريعة الإسلام التي أتى بها الرسول محمد شريعة اليهود والنصارى، مع اعترافها بأن الأنبياء إخوة لعلات أبوهم واحد وأمهاتهم شتى، أي أن الأديان متفقة على عبادة الله الواحد الأحد ومختلفة في التفاصيل، وقد حسم القرآن هذا الأمر فقال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.

وهذا الحسم هو ما جعل الحوار الإسلامي مع النصرانية واليهودية يتخذ صورة جدلية قائمة على إثبات صحة دين محمد وبطلان ما سواها من الأديان، مع الاعتراف بوجودها بصيغة محرفة لا تخلو من بعض الحق، وهو المشار إليه في قوله : “حدثوا عن أهل الكتاب ولا حرج”، وقوله عنهم: “لا تصدقوهم ولا تكذبوهم.

و مع كل ذلك الجدل إلا أن أهل الإسلام اتفقوا قاطبة على أن القرآن أعطى صفة خاصة لأهل الأديان التوحيدية، وسماهم أهل كتاب، وفرق بينهم وبين المشركين في آيات عديدة؛ فأباح مصاهرتهم وطعامهم مالم يأذن به مع غيرهم كدين المشركين والمجوس.

ولذلك، فإن علم الأديان بات حقلاً معرفيًّا مهمًا في حقل الدراسات الإسلامية، في زمن كثرت فيه الطائفية والانحرافات العقائدية القائمة على العنف. وقد عرف التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية في ظل الدول التي تعاقبت حوارات مع أهل الديانات والملل، مما يعطي انطباعًا خاصًّا حول علم الأديان يقضي بأنه علم خادم للحوار وللسلم الاجتماعي.

فقد عاش الجميع في وطن واحد تجمعهم دولة واحدة وقيم مشتركة وباعدت بينهم معتقداتهم ودياناتهم، وهذا ما أقره القرآن الكريم في قوله: “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ”، وقوله “يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ.

 ما يمكن ملاحظته في علم الأديان اليوم، أنه رغم أصالته في العلوم الإسلامية إلا أنه يبقى حقلاً لا يحظى بكثير اهتمام في الدراسات الإسلامية بالمقارنة مع باقي العلوم الأخرى، كالفقه والحديث والأصول؛ كما يمكن ملاحظة أن هذا العلم يعرف انتعاشًا غربيًّا في الجامعات الغربية.. ورغم الجهود المبذولة في هذا الحقل فهي تبقى جهودًا فردية لا تحظى باهتمام وعناية الجامعات والمراكز الفكرية، كما هو الشأن عند الغرب.

ونأمل أن يتنبه القائمون على الجامعات الاسلامية والمراكز البحثية إلى أهمية هذا العلم؛ لأنه علم خادم للحوار والسلم المجتمعي. وقد سعى هذا المقال إلى التعريف بهذا العلم ووظيفته وأهميته؛ لأنه علم خادم للمعرفة والحوار والسلم المجتمعي.