جعل الله -تعالى- الخلائق متمايزة فيما بينها في اللسان واللون والشكل، وجعل ذلك آية من آياته -سبحانه، فقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم: 22].
والتمايز غريزة في البشر يؤكدون من خلالها على خصوصيتهم وتفردهم، خصوصيتهم الدينية والاجتماعية والثقافية والقومية والتاريخية؛ فلا تكاد تجد إنسانًا لا منتميًا.
وهذا التمايز والخصوصية هو ما يمكن أن نعبّر عنه بالهُوية.
وهو مصطلح -بدلالته التي نقصدها- حديث التداول والاستخدام؛ فـ”لم يكن متداولاً في الحياة الثقافية والفكرية في مطلع هذا القرن([1])؛ فلم تكن الهوية من ألفاظ الثقافة والفكر، ولا من أدبيات العمل السياسي”([2]).
يقول رسول محمد رسول: “إن مصطلح الهوية في حد ذاته لا يمت بصلة إلى جوهر اللغة العربية؛ فهو طارئ عليها، ومن منظومة أخرى”([3]).
والهُوية مصدر صناعي مُشتقٌّ من الضّمير (هو).
وهي فِي الفلسفة تعني: “حَقِيقَة الشَّيْء أَو الشَّخْص الَّتِي تميزه عَن غَيره”([4]).
“يقول أحمد ماضي: إن المعاجم الحديثة تعرف الهوية على أنها (الذات)”([5])، أي: تنتمي لذاتك والبيئة التي نشأت فيها لا لغيرها من البيئات؛ فهي إحساس الإنسان “بالولاء والانتماء إلى فئة ما، أو فكرة ما”([6]).
والهوية بنت بيئتها، وتنشأ من خلال التفاعل بين عدة عناصر تتمثل في: الدين واللغة والجنس والأرض والتاريخ المشترك، وتترسخ الهويات عبر السنين، وتتابع الأجيال على حراستها والتمسك بها.
ولكل أمة من الأمم وشعب من الشعوب هوية عامّة كلية غالبة، إلا أن ذلك لا يمنع من وجود هويات خاصة في هذا الإطار الكلي، “هويات متعددة ذوات مستويات مختلفة”([7]).
فالمصريون -مثلاً- لهم هوية عامّة كلية يشتركون فيها جميعهم، إلا أن المسلمين منهم يختلفون بعض الاختلاف عن المسيحيين، ولأهل الشمال (الوجه البحري) بعض التمايز عن أهل الجنوب (الصعيد)، وهكذا.
فالهوية العامّة الكلية “هي انصهار الذوات في بوتقة واحدة هي (الجماعة)، بمعنى أن الـ(نحن) تنتقل من حيز الحس الى حيز التجريد، ومن حيز المكان المحدود زمانيًّا الى حيز المكان الممتد في الزمان والمكان، لتشكل هذه (النحن – الهوية)، الضمير الجمعي والوعي الاجتماعي، الذي بموجبه أفكر وأشعر وأعمل وأسلك”([8]).
ويرى الدكتور ناصيف نصّار أن كل جماعة تسعى بكيفية واعية أو غير واعية إلى توكيد هويتها وتعزيز الشعور بأهميتها بمختلف الوسائل المتاحة.
ويذهب إلى أن الأيديولوجية عندما تتولى مسئولية إبلاغ هذا السعي إلى غايته يصبح خطاب الهوية على قدر عال من التشعب والتعقيد، سواء من جهة قوى الفكر التي تنتجه أم من جهة الموضوعات التي تدخل في نطاقه.
ويؤكد على أن الهوية الجماعية التي تطرحها الأيديولوجية كحقيقة قائمة في الوجود الموضوعي هي حقيقة تاريخية, تكونت في الماضي، وهي مستمرة اليوم، وتريد الاستمرار في المستقبل.
فالعقل الأيديولوجي -حسب وجهة نظره- لا يقدر أن ينفصل في خدمة هذه الحقيقة عن الخيال والذاكرة المشحونة بالعواطف والاستشراف الواعد بالخير.
وهو يرى أن جميع المجالات تخدم هوية الجماعة؛ فالعقل الاقتصادي يدرس دور النظام الاقتصادي الذي تعيش الجماعة في ظله في مدى محافظة الجماعة على روابطها، وفي شعورها بقدرتها المادية، وفي تحسين ظروف معيشتها.
والعقل السياسي يتناول هوية الجماعة في علاقتها بالدولة ونظام الحكم المعتمد فيها.
والعقل الثقافي يتناول الهوية نفسها، لكن من زاوية الأنشطة والظاهرات الثقافية التي يوفرها الواقع أمامه.
إلا أن هذه العقول جميعها تحتاج إلى العقل التاريخي الذي يدرس الماضي في ضوء الحاضر ومن أجله، ويدرس الحاضر في ضوء المستقبل ومن أجله([9]).
والهوية ليست ثابتة، بل “متغيرة مع حركة التاريخ والانعطافات التي يتعرّض لها، وقد أثبتت الجدالات العلميّة أنّ هويّة أية أمةٍ أو مجتمع ليست أمرًا سرمديًّا أو ثابتًا، بل هي مرتبطة بكافة المؤثّرات الخارجيّة، إضافةً للتداول العلمي للثقافات والأفكار، ولارتباطها بالصراع على السلطة، وهذه الصراعات تؤثّر فيها -بشكلٍ مباشر أو غير مباشر- لعبةُ التوازنات، والمؤثّرات الخارجيّة المحيطة”([10]).
وتظهر قضية الهوية وقت الصراعات والأزمات والصدامات بين الأمم، أو عندما يأتي من يحاول أن يغير ما اعتبرته الأمم ثابتًا من ثوابتها.
فالقوي يفرض هويته، ويستخدم في ذلك الترغيب والترهيب، والشدة واللين، والجبر والاختيار؛ فالدولة الأموية في عهد عبد الملك بن مروان فرضت الهوية العربية من خلال تعريب دواوين الدولة.
ومصطفى كمال أتاتورك فرض هوية جديدة على الأتراك، حتى أصبحت ثابتًا من ثوابت الأمة التركية الحديثة ما بعد إسقاط الخلافة العثمانية.
والرجل الأوروبي المغامر الذي ترك أوروبا متجهًا للعالم الجديد فرض هويته على الشعوب القاطنة في القارات الجديدة؛ ففرض دينه ولغته وحضارته وثقافته، فرضها بالحديد والنار، بل قاموا بالتطهير العرقي ضد الهنود الحمر.
والروس الذين فرضوا هويتهم ولغتهم على الشعوب المسلمة بأواسط آسيا.
والفرنسيون الذين فرضوا ثقافتهم ولغتهم على الشعوب الإفريقية.
ولا زال تشويه الهوية العربية والإسلامية قائمًا على قدمٍ وساق، حتى نشأت أجيال لا هي منتمية إلى ذاتها (من حيث الانتماء الديني واللغوي والثقافي والتاريخي)، ولا هي منتمية إلى غيرها في أمثال العناصر السابقة، فأصبحت مشوهة الهوية.
لذلك فإن التفريط في الهوية هو تفريط في عناصر تكوينها…
تفريط في الدين بجوهره الحقيقي، وتفريط في كفاح الشعوب وتاريخها الضارب بجذوره في أعماق الزمن، وتفريط في اللغة التي كانت وعاءً للثقافة.
والشعوب القوية هي التي تقاوم التبعية وتشويه الهوية وتعمل على بعث عناصر تميزها وتفردها، أما الشعوب الضعيفة فتذوب في غيرها، وتصبح غير ممثلة لنفسها ولا لغيرها.
ولا زالت الدولة والسلطة هي التي تملك مفتاح تغيير الهويات بتثبيتها أو العبث بها.
([1]) يقصد القرن العشرين.
([2]) محمد الزيري: الهوية عند الحركة الوطنية المغربية، الحوار المتمدن، 27 – 2 – 2007م.
([3]) د. سعيد التل: هوية الإنسان في الوطن العربي – “مشروع قراءة جديدة”، الحلقة الأولى، جريدة الدستور، 30 – 10 – 2006م.
([4]) المعجم الوسيط، (2/998).
([5]) هوية الإنسان في الوطن العربي، جريدة الدستور.
([6]) السابق.
([7]) الهوية عند الحركة الوطنية المغربية، الحوار المتمدن.
([8]) مصطلحات أنثروبولوجية: هوية، موقع شبكة النبأ المعلوماتية.
([9]) انظر: الأيديولوجية على المحك، ص(47-49).
([10]) مروان حبش: مقاربة في مفهوم الهوية الوطنية، باختصار، موقع جيرون، 17 – 8 – 2017م.