بعد أداء صلاة خاشعة ارتفعت فيه الأصوات بالدعاء، وجلسنا نتناول طعام السحور استعدادا لصيام يوم جديد، قال أحد الجالسين ألا ترون ما يحدث للقدس وأهلها من عدوان، ودندن حول هذا الموضوع، نظرت إليه فوجدته يتناول طعامه بينما من يجلس إلى جواره لا يجد خبزا، نبهته إلى جاره لكنه واصل الحديث، قلت له: إذا كنت لم تلتفت إلى من بجوارك، ولم تعطه من خبزك رغم تنبيهي لك، فكيف تتحدث عن أناس تريد أن تقدم لهم الدعم وتتحسر على وقوفهم وحدهم في وجه المعتدي؟
حديثه يدل على مشاعر طيبة تجاه إخوانه لكن تصرفه يدل على بعض الطبائع الإنسانية إذ يترك بعض الناس ما هو بمقدورهم من عمل الخير ويتحدثون عما ليس لهم قدرة على فعله، استمعت كما استمع غيري لمقطع عن فقه الممكن، وخير الكلام ما حرك الفكر وأثار العقل ودفع المستمع إلى مزيد من البحث.
والممكن والفقه من الأمور التي تتصل بأصحاب العقول الراجحة المطلعة على الواقع، فالفقه هو الفهم، أما الممكن فمتعلق بقدرة الإنسان ومتعلق كذلك بالواقع.
فلكل إنسان قدرة وطاقة وللواقع ضغطه وحدوده التي يقيدنا بها صحيح أنه يمكن تجاوز هذه الحدود لكن ذلك أيضا مرتبط بالقدرة التي تمكننا من هذا التجاوز.
وتدلنا سعة الأفق على أن الممكن أمر أوسع من المعهود، فما نراه وتعودنا عليه أمر يختلف عن ما يمكن أن يقع، فقد اعتاد أهل مكة على عبادة الأصنام ورؤية الناس يعبدونها، ولم يكن إزالة الأصنام التي تحيط بالكعبة أمرا ممكنا في ذهن شخص يعيش في مكة في هذا الزمان، لكنها زالت وحطمت بأمر الله تعالى وعلى يد رسوله ﷺ، بل إذا عدنا إلى الوراء كثيرا بعد أن بنيت الكعبة لم يكن أحد يتوقع أن تتحول من بيت للتوحيد إلى ساحة لعبادة الأصنام، لكنها تحولت وبقيت على ذلك لمئات السنين.
هناك أمور يستبعدها البعض ويحكمون بعدم إمكان وقوعها يحكمون هذا الحكم من واقع تجربتهم فهم لم يروا من صنع ذلك، أو رأوا من حاول محاولة خاطئة وفشل، أو بحكم قدراتهم العقلية التي تسبح في فضاء محدود من الفكر، أو بحكم السقف الذي وضعوه لأنفسهم وهو سقف منخفض جدا يحيطون أنفسهم بأسوار من شدة الوهم، وما قادك شيء مثل الوهم والخوف يصنع الكثير من الأوهام
إن النفوس الكبيرة تتعلق بالمعالي في تحديد الأهداف الكبيرة وفي تنفيذها على أحسن الوجوه، لكن قد يحال بينها وبين بلوغ الدرجات الرفيعة، فهل تتوقف عن السعي وتصاب بالإحباط، أم أنها تفعل ما تقدر عليه، فإذا طمعت في إطعام الفقراء وإشباع بطونهم وكسوة العريانين لكن قلة المال وزيادة النفقات تحول دون التصدق فماذا يصنعون؟ كان أحدهم يتصدق كل يوم بما يتيسر له عرف الفقراء جوده فكانوا ينتظرون خروجه من عمله في بعض الأيام لا يجد ما يكفي من ينتظرونه، فكان يشتري المخبوزات الجافة بما بقي معه من مال ويوزعها عليهم ليأخذ كل منهم قطعة أو أكثر، فإذا لم يستطع أن يملأ بطونهم فلا أقل من أن يضع فيها ما يستطيعون معه إكمال يومهم
ولعله في ذلك يعمل فيما بينه وبين الله على أن يكون مصدر هذا الباب من الخير مفتوحا ليسجل في صحيفته ما كتبه الله تعالى من الأجر وساعة أن يوسع الله تعالى عليه في الرزق سيوسع على عباد الله المحتاجين لكن يده لن تمسك القليل لأنها لا تجد الكثير والإنفاق مهما كان قليلا أحد وسائل طرق أبواب الرزق فعندنا وعد إلهي يا ابن آدم أنفق أنفق عليك
ولهذا الجواد في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها اسوة حسنة فقد جاءها سائل فقدمت له حبة عنب فتعجب من شاهد هذا الموقف مع ما يعرفه من كرم شديد ورثته عن أبيها وتعلمته من المصطفى ﷺ، لكنه أجابته من منطلق قرآني كم في هذه من مثاقيل الذر وهي تشير إلى قوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره
في طريقي لأداء صلاة التهجد رأيت عمالا يعملون في مطعم والوقت المحدد لصلاة التهجد هو ذات الوقت المتاح لبيع ما في المطعم ومن ثم تحقيق أرباح يتمكنون معها من الحصول على أجورهم، تساءلت كيف يمكن لهؤلاء أن يقيموا الليل ويحصلوا على أجر هذه الليالي المباركة؟ ما الذي يمكنهم فعله ليكتبوا من القائمين؟ قلت إذا دعوا بالدعاء الذي علمه النبي ﷺ لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني، ألا يكونوا قد أخذوا نصيبهم من هذه الرحمة المفتحة إن تعلق قلوبهم بالله في وقت عملهم ودعائهم لربهم عز وجل لأنفسهم ولمن يحبون ألا يجعلهم أشبه الناس بحملة العرش {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7]، فالملائكة يحملون العرش هذه مهمتهم، ويذكرون ربهم، ويدعون للمؤمنين والمؤمنات قد يتمكنون من صلاة ركعتين خفيفتين وتعلقهم بالصلاة وانشغالهم بالذكر مع أداء عملهم عبادة أيضا.
قد يجهد الإنسان العمل حتى يعجز عن الصلاة قائما فهل يترك صلاة النوافل لذلك إن عجز عن الصلاة قائما أمكنه أن يصلي جالسا أو على جنب يمكنه أن يذكر الله بلسانه أو يتلو كتابه ولهؤلاء نذكر هذه الحكمة طوبى لمن رقد إذا نعس وذكر الله إذا استيقظ.
ما هي عوامل تفعيل فقه الممكن؟
أولها – الزمان فما يعجز الإنسان عنه أيام الصبا لوقوعه تحت وصاية والديه يمكنه أن يفعله بعد أن يكتسب الحكمة ويتمكن من الرؤية الصحيحة ويتصرف باستقلالية مدعومة بالعقل والخبرة وما يقدر عليه الشاب قد يعجز عنه إذا كبر في السن وضعفت قوته.
السياسة هي فن الممكن وإذا كانت هذه الكلمة تقال دوما في التعامل مع الدول، فهي حقيقة إنسانية واجتماعية أيضا، ما هو الذي بإمكاني أن افعله وحيدا إذا لم أجد من يساعدني؟ ما الذي إذا فعلته ونجحت فيه ولو نجاحا جزئيا يمكن أن أتلقى مساعدة من الآخرين وبذلك تزداد مساحة الممكن المتاحة؟ ما الذي سأفعله منفردا ولن أتلقى دعما من الآخرين وبذلك أراجع قدراتي لأحدد ما يمكنني فعله؟ وما الذي لا يمكنني فعله؟ وللمسلم حساب آخر أولا يفعل ما يفعل خالصا لوجه الله تعالى فإذا تحقق له ذلك استطاع أن يستمطر رحمات الله تعالى عليه وفضله وإحسانه، واستطاع أن يحصل على التأييد الإلهي لما يعمل.
ثانيا– التجربة، فأداء الأمور الممكنة وقياس هذه التجربة تفتح لنا آفاقا أرحب فيمكننا أن نتلافى الأخطاء التي وقعنا فيها ونحن نؤدي الأمور المتاحة، ويمكننا بالتجربة أيضا أن نكتشف أن بإمكاننا أن نصنع ما هو أكثر من ذلك.
ثالثا – ترشدنا السنة المطهرة إلى النظر إلى البدائل الممكنة عن عقبة بن عامر قال: « خرج رسول الله ﷺ ونحن في الصُّفَّةِ فقال: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بَطْحَانَ أَوْ الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ؟»، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّنَا نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: «أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيُعَلِّمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ»[ صحيح مسلم] إنهم يحبون أن يذهبوا إلى هذه الأماكن ويعودوا بهذه الثروة العظيمة ناقتين ضخمتين لكنهم لا يملكون مالا لشراء ماعز فضلا عن ثمن الناقة الواحدة يتيح لهم النبي ﷺ هذه الخيار.
رابعا – إنجاز الممكن يشجع الآخرين على الإنجاز ويوسع من مساحة الخير فإذا رأى الناس من يتصدق بالقليل تسارعوا إلى الصدقة بالقليل والكثير بل إن القليل إلى القليل كثير جدا
خامسا – التراكم، فالجبال الكبيرة ما هي إلا مجموعة من الصخور المتراكمة والأعمال العظيمة ما هي إلا مجموعة من الأشياء الصغيرة انضم بعضها لبعض في حكمة وإتقان حتى صارت تسر الناظرين، فالنظر إلى كل عمل من أعمال الخير على أنه خطوة في طريق الألف ميل تقربنا من الهدف، أمر يحفزنا على السير بخطوات ثابتة ولو كانت صغيرة وبطيئة.
سادسا – لا تحقرن من المعروف شيئا، توجيه نبوي يعدل ميزان نظرتنا للأمور فليس هناك عمل صغير لا قيمة له، حتى لو نظر الناس إليه بهذه النظرة، فكل عمل خير قام به صاحبه بنية صادقة يتقبله الله تعالى بقبول حسن ويجازي عليه خير الجزاء، وانظروا إلى الرجل الذي سقى كلبا فشكر الله له فغفر له.
سابعا – الممكن بالنسبة لك قد يكون صعبا بالنسبة لغيرك، كانت إحدى الأمهات تعلم ابنتها مرة واثنتين وثلاثة لكن البنت لا تستوعب، فقالت لها الأم: يا ابنتي لماذا لا تفهمين الأمر سهل، قالت: يا أمي سهل عليك صعب علي، إن قدرات الناس مختلفة ومتفاوتة إلى حد بعيد في الفهم وفي الإنجاز، ولذلك ونحن في رحلتنا لتربية أبنائنا لابد أن نراعي إمكانتاهم العقلية والنفسية والجسدية، فلا نحملهم فوق طاقتهم.
ثامنا – التأمل في آثار قدرة الله تعالى يعين على رفع السقف التطلعات والإمكانات، فالله تعالى قادر مقتدر، وأمره سبحانه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، لذا ندعوه سبحانه أن يزيد من نعمه لتزداد إمكاناتنا، وندعوه جل جلاله أن يوفقنا إلى استخدام هذه الإمكانات فيما يرضيه سبحانه وتعالى عنا ونشكره جل جلاله على هذه النعم فيمنحنا المزيد من الإمكانات.
تاسعا – هناك ما يمكننا فعله الكثير والكثير لكننا لم نوضع في تجربة تكشف عن هذه الإمكانات، وفي كل منا طاقات مدخرة ومهارات وإمكانات تحتاج إلى فرصة لاكتشافها فلا نضيع هذه الفرص من بين أيدينا.