سورة المزمل مكية وآياتها عشرون آية ، سميت بـ المزمّل أي المتلفف بثيابه لأنها تتحدث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في بدء الوحي، ولأنها بدئت بأمر الله سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يترك التزمل: وهو التغطي في الليل، وينهض إلى تبليغ رسالة ربه عز وجل.
مناسبتها لما قبلها
لما ختم الله سبحانه سورة الجن بذكر الرسل – عليهم الصلاة والسلام – في قوله تعالى: (لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغْوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) افتتح هذه السورة بما يتعلق ويتصل بخاتمهم محمد ﷺ حيث بدأَها بقوله: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) وقال الإِمام الآلوسي: لا يخفى اتصال أَولها (قُمْ اللَّيْلَ). إِلخ بقوله – تعالى – في آخر تلك (سورة الجن): (وَأَنَّهُ لَمَّا قَاَمَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ) وبقوله – سبحانه -: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله) الآية
بعض مقاصد سورة المزمل
2- جاءَت السورة تأمر الرسول – عليه الصلاة والسلام – بالصبر على إِيذاء قومه له، وعدم التعرض لهم بأَذى أَو تعييب أَو شتم، وذلك قبل أَن يؤذن له في قتالهم، وأَن يتركهم لله وحده ينتقم له منهم في الدنيا بالهزيمة والقتل كما حدث في غزوة بدر، وفي الآخرة بالأَنكال والجحيم والطعام الذي يعترض في حلوقهم فلا يخرج ولا ينزل: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرهم هجرًا جَمِيلًا) إِلى قوله: (إِن لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا) الخ.
3- جاءَ ختام سورة المزمل ببيان فضل الله ورحمته على رسوله وعلى المؤمنين، وذلك بالتخفيف عنهم في التهجد و قيام الليل؛ لأَنه – سبحانه – علم أنهم لن يطيقوه لمرض بعضهم؛ وحاجة آخرين إِلى السعي في الأَرض ابتغاءَ الرزق أَو للقتال في سبيل الله، ورفع عنهم وجوب ذلك وأَمرهم بإِقام الصلاة وإيتاءِ الزكاة، وأَن يقرضوا الله قرضًا حسنًا، وذلك بفعل الطاعات ابتغاء وجهه – سبحانه – دون رياءٍ أَو سمعة، ووعدهم بأَنهم سيجدون عند الله خير الجزاء وجزاء الخير على ما يقدمونه من بر وطاعة: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}.
فقه الحياة في سورة المزمل
1- فرضية التهجد: يدل ظاهر توجيه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة، وأمره بقيام الليل، ووصفه بالتزمل أن التهجد كان فريضة عليه، وأن فرضيته كانت خاصة به. وهذا رأي أكثر العلماء لأن الندب والحضّ لا يقع على بعض الليل دون بعض لأن قيامه ليس مخصوصا به وقتا دون وقت. وهو الذي يدل عليه قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء 17/ 79] فإن قوله: نافِلَةً لَكَ بعد الأمر بالتهجد ظاهر في أن الوجوب من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم. وليس معنى النافلة في هذه الآية: التطوع، فإنه لا يكون خاصا به عليه الصلاة والسلام، بل معناه أنه شيء زائد على ما هو مفروض على غيره من الأمة.
وقيل: كان التهجد فرضا على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى أمته، ثم نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج.
وقيل: إن التهجد كان نافلة، لا مفروضا، لقوله تعالى: نافِلَةً لَكَ ولأن حمل الأمر: قُمِ اللَّيْلَ على الندب أولى لأنه متيقن، فإن أوامر الشريعة تارة تفيد الوجوب، وتارة تفيد الندب، فلا بد من دليل آخر على الوجوب كالتوعد على الترك ونحوه، وليس هذا متوفرا هنا. ويرد عليه بأن المختار في علم الأصول في الأوامر حملها على الوجوب أو الإلزام إلا بقرينة تصرفه عن ذلك إلى الندب أو الإباحة. ولأنه تعالى ترك تقدير قيام الليل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وخيره بين النصف أو أقل منه أو أكثر، ومثل هذا لا يكون في الواجبات. ويرد عليه بأنه قد يكون الواجب مخيرا بين أمور ثلاثة كالكفارة.
والراجح هو أن التهجد نسخ عن الأمة وحدها، وبقي وجوبه على النبي صلّى الله عليه وسلّم، بدليل آية الإسراء: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ. وربما كان العمل بحديث سعد بن هشام بن عامر السابق صحيحا: وهو نسخ الوجوب مطلقا وصيرورة التهجد (أو قيام الليل) تطوعا، تخفيفا وتيسيرا، والناسخ هو الصلوات الخمس، وأما آخر سورة المزمل الذي نزل بعد أولها بنحو عام كما في بعض الآثار، فقد نسخ المقدار الذي بيّن في أولها، دون نسخ أصل وجوب التهجد.
والمقدار المذكور في أول سورة المزمل : هو نصف الليل أو أنقص منه قليلا إلى الثلث، أو الزيادة عليه إلى الثلثين.
2- وجوب ترتيل القرآن: لا خلاف في أنه يقرأ القرآن بترتيل على مهل، وتبيين حروف، وتحسين مخارج، وإظهار مقاطع، مع تدبر المعاني. والترتيل:
التنضيد والتنسيق وحسن النظام والخلاف في التغني به وتلحينه فقال بكراهته جماعة منهم الإمامان مالك وأحمد، وأجازه جماعة آخرون منهم الإمامان أبو حنيفة والشافعي، ولكل فريق أدلة .
استدل المجيزون بما يأتي.
أولا- ما أخرجه أبو داود والنسائي عن البراء بن عازب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «زيّنوا القرآن بأصواتكم» .
ثانيا- ما أخرجه مسلم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» .
ثالثا- ما رواه البخاري عن عبد الله بن مغفّل قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته، فرجّع في قراءته.
رابعا- ما روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استمع لقراءة أبي موسى الأشعري، فلما أخبره بذلك قال: لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبّرته لك تحبيرا.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لما سمعه: «إن هذا أعطي مزمارا من مزامير داود» .
خامسا- ما رواه مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما أذن الله لشيء كإذنه- استماعه «2» – لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن» .
سادسا- إن الترنم بالقرآن من شأنه أن يبعث على الاستماع والإصغاء، وهو أوقع في النفس وأبلغ في التأثير.
واحتج المانعون بما يأتي:
أولا- ما رواه الترمذي في نوادر الأصول عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق، فإنه يجيء من بعدي أقوام يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم» فهذا نعي على الترجيع بالقرآن ترجيع الغناء والنوح.
ثانيا- ما روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه ذكر أشراط الساعة، وذكر أشياء، منها: أن يتخذ القرآن مزامير، وقال: «يقدّمون أحدهم، ليس بأقرئهم ولا أفضلهم ليغنيهم غناء» .
ثالثا- أخرج الدارقطني عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مؤذن يطرب، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الأذان سهل سمح، فإن كان أذانك سهلا سمحا، وإلا فلا تؤذن»
فقد كره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يطرب المؤذن في أذانه، مما يدل على كراهة التطريب في القراءة بالأولى.
رابعا- أنكر أنس بن مالك على زياد النميري حينما قرأ ورفع صوته وطرب، وقال: يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون.
خامسا- إن التغني والتطريب يؤدي إلى أن يزاد على القرآن ما ليس منه لأنه يقتضي مد ما ليس بممدود، وهمز ما ليس بمهموز، وجعل الحرف الواحد حروفا كثيرة، وهو لا يجوز. كما أن التلحين يلهي النفس بنغمات الصوت، ويصرفها عن تدبر معاني القرآن.
والحق التوسط في الأمر، فإذا كان التلحين والتطريب يغير من ألفاظ القرآن، ويخل بطرق الأداء، أو كان تكلّفا وتصنعا يشبه توقيعات الموسيقى، فهو ممنوع وحرام. أما إذا كان تحبيرا وترقيقا وتحزينا يؤدي إلى اتعاظ القارئ، وكمال تأثره بمعاني القرآن، فلا دليل على المنع، بل الأدلة تجيزه 3- ثقل القرآن والوحي:
القرآن ثقيل شديد بما اشتمل عليه من تكاليف شاقة على النفس، وفرائض وحدود صعبة على الإنسان. والوحي أيضا ذو تأثير كبير على القلب والنفس، كما جاء في خبر عائشة رضي الله عنها المتقدم، وأخرج أحمد وابن جرير وغيرهما عن عائشة أيضا: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أوحي إليه، وهو على ناقته، وضعت جرانها- يعني صدرها- على الأرض، فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرّى عنه» أي الوحي.
4- ناشئة الليل: إن أوقات الليل وساعاته أو العبادة الناشئة في الليل، أو النفس الناشئة في الليل الناقضة من مضاجعها للعبادة أشد وطأ، أي أشد موافقة بين السر والعلانية أو القلب واللسان، وأكثر مصادفة للخشوع والإخلاص وأسدّ مقالا وأثبت قراءة، بسبب سكون الليل، وراحة النفس من الضوضاء والعناء، والبعد عن الرياء والمباهاة، أو حبّ اطلاع الآخرين على الطاعة والعبادة، وشدة الاستقامة والاستمرار على الصواب لأن الأصوات هادئة، والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلّي ما يقرؤه.
5- مشاغل النهار: الإنسان مشغول عادة بحاجاته ومصالحه المعيشية في النهار، فلا يتفرغ عادة للعبادة، وإنما الفراغ موجود في الليل.
6- ذكر الله والتبتل: المؤمن مأمور بالاستكثار من ذكر الله وأسمائه الحسنى، وبالمداومة على التسبيح والتحميد والتهليل و قراءة القرآن، دون أن يشغله شاغل في الليل والنهار، وهو مطالب أيضا بأن يجعل همه كله في إرضاء ربه، وتجريد نفسه عن التعلق بغيره، والاستغراق في مراقبته في جميع أعماله.
ويكون أشرف الأعمال عند قيام الليل: ذكر اسم الرب، والتبتل إليه، وهو الانقطاع إلى الله بالكلية وليس المراد الانقطاع عن أعمال النهار، والعكوف على الذكر والعبادة، فهذا يتنافى مع قوله تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا بل المراد التنبيه إلى أنه ينبغي ألا يشغله السّبح في أعمال النهار عن ذكر الله تعالى.
والتبتل: الانقطاع إلى عبادة الله عز وجل، أي انقطاع الإنسان بعبادته إلى ربه، دون أن يشرك به غيره، وليس المعنى الانقطاع عن مشاغل الحياة لكسب المعيشة من طرق عزيزة كريمة، لا يكون فيها الإنسان عالة على غيره.
فقد ورد في الحديث النهي عن التبتل بمعنى الانقطاع عن الناس والجماعات.
وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة 5/ 87] وهذا يدل على كراهة من تبتّل، وانقطع عن الناس، وسلك سبيل الرهبانية.
والخلاصة: التبتل المأمور به: الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة كما قال تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البيّنة 98/ 5] . والتبتل المنهي عنه: هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع.
7- إفراد الله بالتوكل عليه: كما أن المؤمن مطالب بإفراد الله بالعبادة، مطالب أيضا بإفراده بالتوكل عليه، فمن علم أن الله رب المشارق والمغارب، انقطع بعمله وأمله إليه، وفوّض جميع أموره إليه، فهو القائم بأمور العباد، الكفيل بما وعد.
8- الصبر على الأذى في سبيل الدعوة: أمر الله نبيه بأن يصبر من أجل دعوته على الأذى والسب والاستهزاء من سفهاء قومه الذين كذبوه، وبألا يتعرض لهم، ولا يعاتبهم ويداريهم. قال قتادة وغيره: وكان هذا قبل الأمر بالقتال، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم، فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك.
وأرى أن هذا من منهج الدعوة الدائم وسياستها الثابتة التي يحتاج إليها الدعاة في كل عصر. قال أبو الدرداء: إنا لنكشر في وجوه أقوام، ونضحك إليهم، وإن قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم.
مصادر :
1- التفسير الوسيط للقرآن الكريم المؤلف: مجموعة من العلماء بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الناشر: الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية الطبعة: الأولى، (١٣٩٣ هـ = ١٩٧٣ م) – (١٤١٤ هـ = ١٩٩٣ م)
2- التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج المؤلف : د وهبة بن مصطفى الزحيلي الناشر : دار الفكر المعاصر – دمشق الطبعة : الثانية ، 1418