في بيتنا مريض: لا تخلو حالة الإنسان من صحة أو مرض، شأن كل الثنائيات التي تمتلئ بها الحياة؛ مثل الفقر والغني، العلم والجهل، الرضا والسخط، وغير ذلك مما يمثل اختبارًا لنا، ومقياسًا لما نمتلكه من إيمان بالله تعالى ومن قدرة على مواجهة هذه التقلبات وحسن التعامل معه؛ قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } (الملك: 1- 2).

هذه هي طبيعة الحياة من حيث التقلب والتغير، والحكمة الكبرى من ذلك تتمثل في الابتلاء والاختبار؛ فالدنيا في مجملها دار امتحان، وعلينا أن نثبت بأعمالنا أننا جديرون باجتياز هذا الامتحان على وفق ما يريده الله تعالى منا.

فهم الحكمة من المرض

إذن، المرض شيء طبيعي في الحياة، ينبغي ألا نجزع منه وألا نستقبله بالسخط؛ وإنما علينا أن نفهم الحكمة منه، ونستعين بالله عليه، ونأخذ بالأسباب المتاحة والمشروعة التي قد تجعلنا نتغلب عليه، ملتمسين الشفاء ما أمكننا السعي.. والأمر بيد الله سبحانه وتعالى أولًا وآخًرا، وهو سبحانه صاحب القدرة المطلقة والحكمة التامة في كل ما يقدّره لنا؛ عَلِمنا ذلك أم لم نعلم..

بل يدلنا الحديث الشريف على أن ثمة ارتباطًا بين المرض وثقله وشدته وبين الإيمان أو رفعة الدرجات. فعن عبد الله بن مسعود قال: دَخَلْتُ علَى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَهو يُوعَكُ، فَمَسِسْتُهُ بيَدِي، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا. فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: “أَجَلْ، إنِّي أُوعَكُ كما يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنكُم”. قالَ: فَقُلتُ: ذلكَ أنَّ لكَ أَجْرَيْنِ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: “أَجَلْ”. ثُمَّ قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: “ما مِن مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مِن مَرَضٍ، فَما سِوَاهُ إلَّا حَطَّ اللَّهُ به سَيِّئَاتِهِ، كما تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا” (أخرجه البخاري ومسلم).

وعن سعد بن أبي وقاص قال: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: “الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثلُ؛ يُبتلَى الرَّجلُ على حَسْبِ دِينِه، فإن كان دِينُه صُلبًا اشتدَّ بلاؤُه، وإن كان في دِينِه رِقَّةٌ ابتلاه اللهُ على حسْبِ دِينِه؛ فما يبرَحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يمشيَ على الأرضِ وما عليه خطيئةٌ” (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

الإسعافات الأولية

كذلك من المهم أن تتمتع الأسرة بثقافة طبية عامة، ومعرفة بالأدوية والإسعافات الأولية الضرورية التي تساعدها على حسن التصرف قبل مراجعة الطبيب؛ فربما تكون هناك أعراض خفيفة يمكن التعامل معها؛ مثل: نزلات البرد، ارتفاع الحرارة، الإسهال.. أو يكون الوقت حرجًا، مثل حالتي الحروق، والتسمم.

كما أن الثقافة الطبية المناسبة تمكّن الأسرة من متابعة حالة المريض جيدًا بعد مراجعة الطبيب، ومن التزام تعليمات الطبيب بدقة في جرعات الأدوية وتوقيتاتها، وغير ذلك من الإجراءات المطلوبة.

وهنا، وددتُ لو أن الثقافة الطبية العامة تكون مقررًا يُدَرج في مراحل التعليم المبكرة، أو تكون ضمن مناهج مادة العلوم.. بحيث يكتسب الطالب، ومعه الأسرة، كيفية التصرف وحسن التعامل مع أمور بسيطة أو عاجلة. ففي بعض الحالات، خاصة في الحروق، يلجأ البعض للتصرف حسب اعتقادات شائعة خاطئة، قبل أن يذهب للطبيب؛ فيزيد الطين بلة، والألم شدة!!

وحبذا لو يكون لدى الأسرة كتب طبية تتناول هذه الإجراءات والاحترازات في عمومها.. فهذا جانب مهم، من اللائق أن تضمه “المكتبة المنزلية”.

في بيتنا مريض .. التزام التعليمات

ومن المهم كذلك أن يعرف المريض أهمية الالتزام بتعليمات الطبيب، وأن يُعان على ذلك من قِبل أفراد الأسرة. فللأسف، نرى في بعض الحالات إهمالاً أو استهانة بهذه التعليمات، وبعض هذا الإهمال يكتسي حججًا دينية؛ مثل أن كل شيء بقضاء وقدر، وأن تعليمات الطبيب لن تغني عن المقدور!!

وهذا خطأ بيّن، واستهانة بالأسباب التي أُمرنا بالأخذ بها. وفي الحديث الشريف عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي قال: «تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ مَعَهُ شِفَاءً إِلَّا الْهَرَمَ» (رواه ابن ماجة وأحمد وغيرهما).

صيدلة البيت

وأيضًا من المهم توفير الأدوية والمستلزمات الطبية الأساسية بالبيت، مثل: المسكنات، المضادات الحيوية، المطهرات.. بجانب الحرص على عدم انقطاع أدوية الأمراض المزمنة، ومراجعة الموجود منها باستمرار، حتى لا تحدث مفاجأة بنفاد أحدها في وقت حرج..

وهنا، ننبه على أمور:

  • عدم استسهال أخذ الأدوية دون مشورة الطبيب.
  • عدم الإسراف في أخذ المسكنات أو تجاوز الجرعات المقررة.
  • التأكد من تاريخ صلاحية الأدوية، خاصة التي تكون موجودة باستمرار في البيت، مثل أدوية الكحة أو خافض الحرارة للأطفال.

التهيئة المنزلية

وجود مريض بالبيت، لاسيما إن كان من كبار السن، يعني أن البيت لا بد أن يُهيّأ تبعًا لهذه الظروف، وأن تتم مراجعة العادات بحيث يُختار منها ما يناسب هذا الظرف الجديد.

ومن المهم توفير الراحة للمريض، والاعتناء بغرفته، نظافةً وترتيبًا.. مع صنع بعض الأطعمة التي يحبها، متى ناسبت ظروفه الصحية؛ فهذا أدعى لإدخال السرور عليه، وإظهار مدى العناية به..

وفي حالة المرضى كبار السن، يجب إبعاد صخب الأطفال عنهم، وليس حرمانهم بالكلية من الأطفال.. مع مزيد عناية واهتمام؛ فهم في هذه الحالة يكونون أشد حساسية وتأثرًا عن ذي قبل، وقد يفهمون التصرفات التي كانت طبيعية، على نحو جديد يزيد من ألمهم أو ضيقهم النفسي.

ولهذا، كان لافتًا أنه حينما أوصانا القرآن الكريم ببر الوالدين، فإنه جعل ذلك مقترنًا بالتنبيه على التعامل بمزيد عناية معهما عند الكبر؛ قال تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (الإسراء: 23).

قال القرطبي: “خَصَّ حَالَةَ الْكِبَرِ؛ لِأَنَّهَا الْحَالَةُ الَّتِي يَحْتَاجَانِ فِيهَا إِلَى بِرِّهِ، لِتَغَيُّرِ الْحَالِ عَلَيْهِمَا بِالضَّعْفِ وَالْكِبَرِ؛ فَأُلْزِمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ مُرَاعَاةِ أَحْوَالِهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا أُلْزِمَهُ مِنْ قَبْلُ” (الجامع لأحكام القرآن، 10/ 241).

الدعم النفسي

المريض يحتاج ممن يحيطون به إلى دعم نفسي قدر حاجته للإجراءات المادية، من الكشف والتحليل وتناول الأدوية؛ فالدعم النفسي جزء أساس من رحلة الشفاء، وربما في بعض الحالات يكون الجزءَ الأكبر والأهم؛ ذلك أن حالة الإنسان النفسية والمزاجية تؤثر ولا شك في حالته الجسدية. وبعض الأمراض الخطرة يكون سببها الحالة النفسية. كما أن أمراض البدن يكون من السهل علاجها، متى تحلى المرء بثبات نفسي وقدرة على التحمل.

وهذا الثبات النفسي يستمده المريض من أمرين:

  • الأول: من إيمانه بالله تعالى، وإدراكه أن كل أقدار الله بنا خيرٌ.. ومن معرفة أن طبيعة الحياة التقلب بين مختلف الحالات، لا الثبات على حالة واحدة ترضينا ونرضاها!
  • الثاني: من المحيطين به، وحسن تصرفهم لاسيما في الأمراض شديدة الخطورة. فمن المهم أن يأخذوا بيد المريض تشجيعًا وتحفيزًا.

ومن كلمات أبي بكر الرازي، التي تصح أن تكون دستورًا طبيًّا، قوله: “ينبغي للطبيب أن يُوهِم المريضَ أبدًا الصحةَ، ويُرَجّيه بها، وإن كان غير واثق بذلك؛ فمزاج الجسم تابعٌ لأخلاق النفس” (عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص: 420).

أن يكون في بيتنا مريض.. فهذا يعني التحلي ببعض الآداب والمعارف المتصلة بذلك، حرصًا على توفير راحة وعناية مناسبين للمريض؛ لأن هذا حقه على الأصحاء؛ فالمرض اختبار للجميع، للمريض وللمحيطين به..