نطرح في هذه المقالة الموجزة ما يتعلق بمنهجية الدرس المعرفي لرواد الإصلاح والتجديد في الأمة, وتبدو أهمية هذا الطرح في طبيعة ما قدمه هؤلاء الرواد من أفكار ظهرت في بوادر الأزمة الحضارية التي دخلت فيها الأمة –لاسيما- في العصر الحديث, سواء كان ذلك يتعلق بالبعد الداخلي والذاتي لها المتمثل في الجمود وتبديد العقل والدخول في كهف ما بعد التحضر, أو ما يتعلق بالعوامل الخارجية المتمثلة في إعاقات الاستعمار لحركة الإصلاح الداخلي وما تبعه من نتائج على واقع الأمة وعلى عقلها.
ومن ناحية أخرى تبدو أهمية درس هذه الأفكار الإصلاحية ليس لمجرد استدعائها ذهنيًا, وإنما للبحث في كيفية تشغيل تلك الأفكار في الواقع المعاصر للأمة, وإدراك ما حدث من تراكم لها –طولًا وعرضًا- في العقل المسلم عبر ما يزيد على قرنين من الزمان, ومن ثم جاء هذا الطرح للدرس المنهجي والمعرفي لرواد الإصلاح والتجديد لعله يفيد الباحثين في الفكر الإسلامي المعاصر.
مما يجب مراعاته منهجياً للباحث في أفكار رواد الإصلاح في الأمة ما يلي:
1- إدراك البيئة بمعناها الواسع التي ظهرت فيها أفكار الإصلاح: التاريخ والجغرافيا والمذهب والتنشئة والتعليم والأكاديميا؛ فالأفكار البشرية ترتبط دائماً ببيئتها، سواء كان ذلك أخذاً أو عطاء، رفضاً أو موافقة، وعلى سبيل المثال، مفهوم الخلافة الذي تحدث فيه كل من عاصر إلغاء هذه المؤسسة السياسية المشيدة في حضارتنا لمدة تقترب من عشرة قرون، كما ظهر عند رشيد رضا، و مصطفي صبري، و حسن البنا وغيرهم.. فكانت الدعوة إلى استعادة الخلافة رد فعل طبيعي لهذه الحادثة التاريخية….ولو عاش هؤلاء إلى عصرنا الحاضر لتناولوا القضية بصورة أخرى وفقاً للمتغير التاريخي و السنني…والشاهد من هذا القول أنه لا ينبغي اجتزاء الأفكار من بيئتها: التاريخية والجغرافية أو الدينية أو حتى على مستوى البيئة الصغيرة (الأسرة) أو البيئة التعليمية، فالفكرة بنت بيئتها، والأفكار لها وظيفة وليست في إطلاق؛ بل إن القرآن ذاته يؤكد على تعليل الأحكام والفروض بعلل اجتماعية، وظهرت كتابات عديدة تحمل مثل هذه المعنى “علل الأحكام”، “الموافقات”، وهكذا….فما بالنا بأفكار البشر التي لا ينبغي – أصلاً – أن تحمل إطلاقاً؛ بل نسبياً بتغير عناصر البيئة “الزمان والمكان والتاريخ والمعرفة”.
2- إدراك التصور الفكري المنهجي للأزمة الحضارية: إن إدراك تصور المفكر أو الرائد للأزمة الحضارية التي تعاني منها الأمة يبين أسباب الأزمة وعواملها، وهل أسبابها داخلية فقط، أم خارجية فقط، أم خارجية وداخلية، وما طبيعة العوامل الداخلية وكذلك الخارجية، وماهية هذه العوامل أو الأسباب التي أدت إلى “الأزمة الحضارية التي تعيشها الأمة وتعانيها.
والتعرف على هذه الأسباب يُظهر إلى أي مدرسة فكرية أو منحنى معرفي ينتمي هذا المفكر أو الرائد، وأي سبل الإصلاح يتبنى، هل يتبنى طرق الإصلاح الداخلي (الذاتي)، أم الخارجي (المستورد)، أم يلفق بينهما، كما يُظهر التعرف على أسباب الأزمة عند المفكر أو الرائد المردود المعرفي والثقافي (سلبياً أو إيجابياً) للبيئة وعناصرها التي تشكل فيها وإلى أي مدى استجاب لها (سلباً أو إيجاباً)، وما مردودها في تصوره الفكري و المنهجي للأزمة الحضارية. كما أن إدراك التصور الفكري – المنهجي للأزمة الحضارية يساهم في إدراك الحلول التي يقدمها لمعالجة الأزمة الحضارية، فالحكم على الشيء فرع من تصوره.
3- الوقوف على منهجية معالجة الأزمة الحضارية: وهذه الخطوة تتطلب تأملاً ذاتياً من الباحث أو الدارس للمفكر أو الرائد، تأملاً ذاتياً يبلغ به الباحث منهج ذلك المفكر ومساره الإصلاحي المتبنى لديه، أو الذي تحقق لديه قناعاته، فمحمد عبده رأى أن “التربية” هي منهج معالجة الأزمة، بينما رآه جمال الأفغاني سياسياً ورآه رشيد رضا “وعيا مجتمعياً” ثم التقط حسن البنا منهم جميعاً هذه العناصر، وطرح أفكاره الإصلاحية في هذا الإطار الثلاثي…أما مالك بن نبي فجعل “الفرد” محور مشروعه الإصلاحي الحضاري باعتباره اللبنة الأولى في هذا البناء والمؤسس لشبكته الاجتماعية الراهن عليها فعل الحضارة…أما على شريعتي فيجعل “الناس” كل الناس مناط التغيير، فالإسلام لا يعتبر بنظرية النخبة أو القادة البارزين كعوامل للتغيير، وهو ما يتوافق مع رؤية عبد الرحمن الكواكبي الذي يؤكد على ضرورة أن يطلب أغلب الناس حريتهم من المستبد ليتحقق التخلص منه باعتباره مصدر كل الشرور والآثام والطغيان. أما رواد مشروع “إسلامية المعرفة”، فقد ركزوا على القضية الفكرية واعتبروها أصل الإصلاح ومنهجه المتبع.
إذن.. من الضروري معرفياً أن يتأمل الباحث منهج المصلح أو المفكر الذي تُبنى عليه أفكار الإصلاح عنده؛ لأن هذه الأفكار ليست عشوائية – كما قد يتصور البعض – ولكنها طرحت من خلال منهج متبنى في الإصلاح حقق لدى صاحبه قناعات معرفية معينة, ومنظومة فكرية متكاملة.. وهذا ييسر فعل التقويم لأفكار الرائد أو المفكر والتشغيل لها.
4- (المجال الحيوي للإصلاح) قضايا / موضوعات الإصلاح: وهذه الخطوة يَظهر فيها آثار الخطوات الثلاث السابقة: البيئة، والتصور، والمنهج، وهذه الخطوة تتطلب من الباحث قدرة و مهارة التحليل والتركيب، فالقضايا التي يطرحها المفكر أو الرائد هنا تمثل الجانب الموضوعي أو الموضوعاتى لقضية الإصلاح عنده، وتمثل القضايا/ الموضوعات التي يطرحها المفكر / الرائد الإصلاحي كليات الفكرة الإصلاحية لديه أو المجال الحيوي للإصلاح بما تتضمنه من عوامل اهتمام وقناعات معرفية بأن القضايا / الموضوعات المطروحة هي ذات الأولوية في برنامج الإصلاح الحضاري لديه، وتتمحور غالباً قضايا الإصلاح حول: الفرد أو المجتمع، الفكرة أو المؤسسة، التعليم أو الاقتصاد، الأخلاق أو الاجتهاد…
فمما اهتم به “محمد عبده” في مشروعه الإصلاحي التربوي مثلاً: تصحيح فهم العقيدة، وتطوير علم الكلام، وإصلاح التعليم الأزهري، أما “مالك بن نبي” فقد اهتم في مشروعه الإصلاحي الحضاري بفكرة : العوالم الثلاثة صانعة الحضارة والتاريخ : الأشخاص والأفكار والأشياء، والوحدة الإسلامية محور طنجة جاكرتا، ومشكلة الثقافة، وإنسان ما بعد الموحدين…، واهتم “شريعتي” بمواجهة جمود رجال الدين، وجمود المذهب، والمتفرنجين أشباه المثقفين وأبرز دور المفكر المسئول و المستنير وهكذا…إن قضايا الإصلاح المعرفي التي يطرحها المفكرون أو رواد الإصلاح تمثل برامج عمل للأمة ينبغي تحليلها وطرحها على المتغيرات المعاصرة بغاية النقد والتشغيل؛ فيستبعد ما هو مرتبط بعوامل قد زالت، والإبقاء على القضايا المستمرة التي تمثل جوهر فكرة التغيير في عالمنا الإسلامي، وجملةً فإن قضايا الإصلاح المعرفي خلال القرنين الماضيين عند هؤلاء الرواد قد تمركزت بصورة كلية حول عدة محاور هي :
أ- الدين ومكانته في التغيير الحضاري: والبناء المنشود للمجتمع الجديد، وتشخيص حالة التدين القائمة به، ومعيار اقترابها من المقياس الصحيح أو انحرافها، وأدوات التعامل معه، ونقاء رؤيتنا للدين أو غبشها، وما أُدخل في “الدين” وما ليس منه، وما أخرج منه وهو في الأصل من كينونته..إلى آخر هذه القضايا التي تتعلق بهذا المتغير العامل صاحب الدور في تكوين الحضارات. والذي ارتبطت به حضارتنا صعوداً وهبوطاً ويقظة أو جمود، وفقًا لعلاقتنا به وفهمنا له وتلقينا لرسالته.
ب- الغرب: يعد الموقف من الغرب وحضارته، ومشروعه، ونموذجه أحد العوامل المؤثرة في حركة الإصلاح وإنتاجها المعرفي، فلا يمكن إنكار الحالة القائمة منذ ما يزيد على قرنين من تفوق علمي وتكنولوجي وتغير حضاري، و في ذات الوقت اختزل الغرب المفهوم الإنساني على “الإنسان الغربي”, ودور الاستعمار في إعاقة أمتنا وإعاقة يقظتها، فالموقف منه ومن آثاره الفكرية والحضارية متغير آخر تأثرت به أفكار الإصلاح في أمتنا.
ج- الأمة: في ظل سيادة مفهوم “الدولة القطرية” التي ساقها الاستعمار إلى عالمنا الإسلامي، كان لمفهوم الأمة على مستوياته المتعددة: المعرفية، والتاريخية، والحضارية حضور بارز في أفكار الإصلاح ومقارناً بمفهوم الدولة القطرية، وللمفهوم أهمية إذ أن أفكار الإصلاح المعرفي لا تتحدث عن إصلاح جزئي أو جغرافي لدولة أو إقليم في عالمنا الإسلامي، بل تنطلق أفكار الإصلاح إلى مفهوم “الأمة” الواحدة، المرشدة، كما تنطلق منه مستلهمة قواعد وأسس التجربة الأولى.
هذه العناصر السابقة لا يكاد يخلو مشروع إصلاحي من إبراز الموقف منها، ومن ثم فنعتبرها قوالب تحليلية أساسية في هذه الخطوة من ركائز الدرس المعرفي. كما أنها تدلل في نفس الوقت على القضايا الكبرى التي عرضت لها أفكار الإصلاح في أمتنا.