لا خلاف بين المسلمين في أن الحديث النبوي الشريف يُعدُّ المصدر الثاني في الإسلام بعد القرآن الكريم، ومع ذلك فإن النحويين لديهم مواقف متباينة من الاستشهاد بالحديث الشريف، والمتتبع لتلك المواقف يمكن أن يقول إنها تنقسم إلى ثلاثة مواقف، حيث يقول أصحاب الموقف الأول بمنع الاستشهاد بالحديث الشريف، في حين يرى أصحاب الموقف الثاني جواز الاستشهاد بالحديث الشريف، أما أصحاب الموقف الثالث فيقفون موقفاً وسطاً بين الموقفين السابقين ، وسنخصص هذه المقالة للكشف عن جوانب من الجدل النحوي التاريخي المتعلق بمواقف النحويين من الاستشهاد بالحديث الشريف، وسيكون عمدتنا في ذلك كتاب “النحويون والحديث الشريف” للدكتور خليل بنيان الحسون، الذي يعدُّ من أحدث الكتب التي تناولت هذه القضية التي لا تزال محل نقاش، نظراً لمكانة الحديث الشريف في الإسلام التي لا يمكن تجاهلها بحال من الأحوال.
الإطار العام للإشكالية
قبل الدخول في نقاش مواقف النحويين من حكم الاستشهاد بالحديث الشريف، رأينا أنه من المهم وضع القارئ في الإطار العام لإشكالية الاستشهاد بالحديث الشريف لدى النحويين، حتى يكون من السهل الانتقال إلى استعراض المواقف الثلاثة التي يمكن استخلاصها من هذا الجدل النحوي التاريخي، ولعل من أهم الأسئلة التي قد تقفز إلى ذهن القارئ في هذا المضمار: ما مشكلة النحويين من الحديث الشريف؟ وما الأدلة التي يعتمد عليها القائلون بمنع الاستشهاد بالحديث الشريف؟ وهل أفصح النحويون الأوائل والمتأخرون عن أسباب مقنعة بخصوص قلّة ميلهم إلى الاستشهاد بالحديث الشريف ؟
لقد حاول المؤلف الإجابة على هذه الأسئلة، حيث قال في المقدمة إن النحويين الأوائل لم يصرح أحد منهم “بما يفصح عن سبب قلة ميلهم إلى الاستشهاد بالحديث الشريف، وإنما نمّ عن ذلك قلة استشهادهم به قلة ظاهرة بالقياس إلى استشهادهم بالشعر” ، وبالتالي فإن أوائل المصنفين من النحويين لم يصرّحوا بشكّهم في أصالة ألفاظ الحديث الشريف، كما أنهم لم يصرّحوا بأن شواهد الشعر أعلى مرتبة من شواهد الحديث، وإنما اعتمدوا على سياسية أخرى تتمثل في تقليل “شواهدهم من الحديث الشريف، وذلك ما عصمهم من لوم اللائمين وإنكار المنكرين” .
أما المتأخرون من النحويين فيبدو أنهم صرّحوا ببعض الأسباب التي دفعتهم إلى عدم التوسع في الاستشهاد بالحديث الشريف، ومن أبرز تلك الأسباب: شكّ النحويين في أصالة ألفاظ الحديث الشريف، وإيمانهم بأن “الغالب منه مروي بالمعنى بألفاظ الرواة من الأعاجم والمولدين” ، وبالتالي يصعب التأكد من كونه لفظ الرسول بشكل دقيق، ومن هنا بدأت تظهر مواقف النحويين المتباينة من الاستشهاد بالحديث الشريف، وسنستعرضها على النحو التالي.
منع الاستشهاد بالحديث
إن أول موقف من مواقف النحويين بخصوص إشكالية الاستشهاد بالحديث الشريف هو الموقف القائل بمنع الاستشهاد بالحديث النبوي، وقد رفع راية هذا الموقف إمام النحاة سيبويه (ت: 180 هـ) بطريقة غير صريحة، ويبدو أن أبا الحسن بن الضائع (ت: 686 هـ) يوافقه على هذا الرأي، فقد نقل السيوطي (ت: 911 هـ) عن ابن الضائع قوله: “تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة كسيبويه وغيره من الاستشهاد بالحديث على إثبات اللغة بالحديث”.
والواضح من خلال كتاب “النحويون والحديث الشريف” أن موقف سيبويه من الاستشهاد بالحديث الشريف غير خافٍ على المتمعّن في سطور الكتاب، فعندما نحدّق في كتاب سيبويه سنكتشف أنه يمنع الاستشهاد بالحديث الشريف ولكن بطريقة غير صريحة، والظاهر أن خليل بنيان الحسون استطاع أن يكشف عن سرّ هذا اللغز المحيّر، وقال: “ولقد كان سيبويه بارعاً في إخفاء معالم شواهده من الحديث الشريف البراعة التي جعلت عدداً من العلماء القدامى والحديثين يقيدون في مصنفاتهم أن سيبويه لم ستشهد بالحديث، ومنهم من قال إنك لا تجد في كتاب سيبويه شاهداً واحداً من الحديث (…)، على الرغم من أن سيبويه قد استشهد بالحديث فيما يربو على عشرة مواضع من كتابه” .
ويبدو أن هناك مجموعة من العلماء والباحثين الذين قالوا إن سيبويه لم يستشهد بالحديث الشريف في كتابه، منهم: الدكتور حسن عون في كتابه “تطور الدرس النحوي”، وعلي النجدي ناصيف في كتابه “سيبويه إمام النحاة”، وأحمد أحمد بدوي في كتابه “سيبويه حياته وكتابه”، وشوقي ضيف في كتابه “المدارس النحوية”، ولعل السبب في ذلك الطريقة غير الصريحة التي استخدمها سيبويه في كتابه، فقد كان يلجأ أحياناً إلى الضمائر هرباً من التصريح أو التلميح، وأحياناً أخرى “يورد الحديث في سياق ما ينظر فيه على أنه مثال من الأمثلة أو قول من الأٌقوال دون بيان قائله تصريحاً أو تلميحاً” .
وهناك أمثلة عديدة على المنهج الذي اتبعه سيبويه في كتابه، فخلال حديثه في باب ضمير الفصل عن حديث معروف النسبة إلى النبي محمد ﷺ نجد سيبويه يكتفي بالقول: “وأما قولهم: كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه. كما نجد سيبويه يورد حديثاً نبوياً آخر في سياق طائفة من الأمثلة، حيث يقول: “ومما يدلك على أنه على أوله ينبغي أن يكون أن الابتداء فيه محال أنك لو قلت: أبغض إليه منه الشر لم يجز، ولو قلت: خير منه أبوه جاز”، ثم يقول: “ومثل ذلك: ما من أيام أحب إلى الله عز وجل فيها الصوم منه في عشر ذي الحجة” . ومن المعلوم أن هذا الحديث وارد في سنن الترمذي باللفظ التالي: “ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبّد له فيها من عشر ذي الحجة.
وفي أمثلة أخرى، نجد أن سيبويه لم يستخدم أي ضمير مثل (قولهم، قوله)، بل ذكر الحديث وكأنه نص فقط، ومن الأمثلة على ذلك قوله: “ومما يقوي ترك نحو هذا العلم المخاطب قوله عز وجل: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ}، فلم يعمل فيه الأول استغناء عنه، ومثل ذلك: (ونخلع ونترك من يفجرك)”.
جواز الاستشهاد بالحديث
ويبدو أن الموقف الأول (السابق) القائل بعدم جواز الاستشهاد بالحديث الشريف أدى إلى ظهور الموقف الثاني القائل بجواز الاستشهاد بالحديث الشريف ويمثله ابن مالك (ت: 672 هـ)، وقد شاطره هذا الموقف بعض النحويين، منهم: ناظر الجيش (ت: 778 هـ)، وبدر الدين الدماميني (ت: 827 هـ)، وابن الطيب الفارسي (ت: 1170 هـ)، ولكننا هنا سنقتصر على ابن مالك باعتباره رائداً لهذا الاتجاه.
من الواضح أن إشكالية عدم جواز الاستشهاد بالحديث الشريف التي أثارها النحويون الأوائل مثل سيبويه قد لفتت انتباه ابن مالك، فقام بتأليف كتابه “شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح” الذي نظر من خلاله في حوالي (289) حديثاً، ولهذا فقد جاءت استشهادات ابن مالك بالحديث الشريف كثيرة، ومن الأمثلة عليها قوله: “وأما قول النبي ﷺ (أو مخرجي هم)، فالأصل فيه وفي أمثاله تقديم حرف العطف على الهمزة، كما يقدم على غيرها من أدوات الاستفهام نحو: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ}، ونحو: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ}.
ومن الأمثلة أيضاً على استشهاد ابن مالك بالحديث الشريف تعليقه على قول النبي ﷺ: “ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الفجر والعشاء” وتأكيده لصحة بيان النبي محمد بمثال من القرآن الكريم، يقول ابن مالك: “وفي ليس صلاة أثقل شاهد على استعمال ليس في النفي العام المستغرق به الجنس، وهو ما يغفل عنه، ونظيره قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} .
وهكذا يظهر جلياً أن ابن مالك استشهد بالقرآن الكريم للتأكيد على صحة وضرورة الاستشهاد بالحديث الشريف، ومن الأمثلة على هذا الأمر أيضاً توقف ابن مالك مع قول ورقة بن نوفل: “ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله ﷺ: (أو مخرجي هم)”، حيث علق ابن مالك على (إذْ يخرجك)، فقال: “وقوله إذ يخرجك قومك استعمل فيه (إذْ) موافقة لـ (إذا) في إفادة الاستقبال، وهو استعمال صحيح غفل عن التنبيه عليه أكثر النحويين، ومنه قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} .
هنا يمكن أن نتوصّل إلى حقيقة مفادها أن النحويين إذا كانوا يرون أن الحديث الشريف مروي بالمعنى بألفاظ الرواة من الأعاجم المولدين وبالتالي جعلوه في رتبة أدنى، فإن ابن مالك يخالف أسلافه من النحويين في هذه المسألة خلافاً جلياً، حيث يتقبّل الخطأ في الرواية، ويرى “أن ما عدّ من الحديث الشريف هو كلام النبي ﷺ وكلام صحابته رضوان الله عليهم”، ولهذا فإن الأحاديث النبوية عند ابن مالك التي ترد في كل المظان المنسوبة إلى النبي ﷺ بالعبارة الدالة عليه دلالة مباشرة، والسبب في ذلك أن ابن مالك يرى أن الكلام في الأحاديث النبوية “كلام أفصح الفصحاء”، و”أفصح الكلام المنثور”، و”أحسن ما يستدل به” .
ولا يخفى على قارئ كتاب “النحويون والحديث الشريف” انتقاد المؤلف لابن مالك في تقبّل بعض الروايات التي كان من الممكن تأويلها (نحوياً)، ومن الأمثلة على ذلك قبوله لحديث: “إن لنفسك حق”، حيث يقول ابن مالك معلقاً على هذه الرواية المنسوبة إلى النبي محمد: “ونظيره إن كان المحذوف ضمير الشأن قول النبي ﷺ في بعض الروايات: (إن لنفسك حق)”، وقد ذهب خليل بنيان الحسون إلى أن ابن مالك كان يحسن به أن يؤوّل هذه الرواية لأن الصيغة التي ذكرها ابن مالك هنا “مخالفة لما هو فاشٍ ومطرد في اللغة، وفي كلام الله تعالى، ففي القرآن: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ}، و{إِنَّ فِيهَا لُوطاً}” .
بين المنع والجواز
أما الموقف الثالث فيبدو أن من رواده كل من أبي حيان الأندلسي (ت: 745 هـ) والسيوطي (ت: 911 هـ)، فقد أنكر أبو حيان على ابن مالك توسعه في الاستشهاد بالحديث الشريف، حتى صل إلى حد التلميح بقصور ذكاء ابن مالك “عن إدراك ما أدركه أسلافه حين أحجموا عن التوسع في الاستشهاد” بالحديث الشريف، حسب تعبير المؤلف.
ومع هذا الإنكار والتلميح، فإن أبا حيان الأندلسي استشهد بالحديث الشريف في كتابيه “البحر المحيط” و”ارتشاف الضرب من لسان العرب”، بيد أنه “لم يُفصح عن السبيل الذي انتهجه في استخلاص شواهده منه من بين الغالب من الحديث المروي بألفاظ الأعاجم والمولدين” .
أما بالنسبة للسيوطي، فالظاهر أنه شايع أبا حيان الأندلسي وكرّر ما قاله بخصوص تسْفيه موقف ابن مالك القائل بجواز الاستشهاد بالحديث الشريف، وقد ألف السيوطي كتابين: أحدهما في إعراب الحديث عنوانه “عقود الزمرجد على مسند الإمام أحمد“، والثاني في النحو عنوانه “أصول النحو”، ولإعلان موقفه من الاستشهاد بالحديث الشريف قال السيوطي: “وقد بيّنت في كتاب أصول النحو من كلام ابن الضائع وأبي حيان أنه لا يستدل بالحديث على ما خالف القواعد النحوية، لأنه مروي بالمعنى لا بلفظ الرسول ﷺ، والأحاديث رواها العجم والمولدون.
ومن الواضح أن كلام السيوطي هذا لا يخلو من تعميم، فكأنه يقول إن الحديث الشريف مروي بالمعنى بدون استثناء، ولكننا نجده في موضع آخر يحاول تدارك هذا التعميم قليلاً، فيقول “إن غالب الأحاديث مروي بالمعنى، وقد تداولها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها، فروَوْها بما أدت إليه عباراتهم”، ثم نجده في موضع ثالث يوضح موقفه أكثر فيقول: “وأما كلامه ﷺ فيستدل منه بما ثبت أنه قاله على اللفظ المروي، وذلك نادر جداً، وإنما يوجد في الأحاديث القصار على قلة أيضاً”.
وهناك عالم آخر يُدعَى أبو البقاء العكبري (ت: 616 هـ) يعتبر من النحويين الذين اهتموا بإعراب الحديث الشريف وإشكالية أصالة ألفاظه، وقد ألف كتاباً سماهُ “إعراب الحديث النبوي”، وقف فيه على (505) مواضع من الحديث الشريف، ولكن يبدو أن خليل بنيان الحسون اطّلع على كتاب أبي البقاء العكبري وتوصل إلى أنه لم يحقق الهدف الذي أعلن عنه بشكل دقيق، وأرجع السبب في ذلك إلى أن أكثر الأحاديث التي وقف عليها أبو البقاء تعتبر “مما لا إشكال فيه، بل إنه الواضح البيّن الموافق لأحكام اللغة” .
وبعد هذا الاستعرض لكتاب “النحويون والحديث الشريف”بقي علينا أن نقول إن محاولة جعل الحديث الشريف غير صالح للاستشهاد محاولة خاسرة ومستغربة جداً، فالحديث الشريف كلام سيد البشر، وفصيح العرب والعجم، وخاتم الأنبياء والمرسلين، ولا يمكن أن يُوضع أيّ فن أو علم قبل الحديث غير القرآن الكريم.