منزورة هي الكتابات المهتمة بحقل السنن التاريخية والاجتماعية في تراثنا الإسلامي، ولكن فجرا صادقا بدأ يلوح في جامعتنا ومراكز بحوثنا في الانعطاف نحو هذا الحقل المهم الذي توليه الأمم الناهضة مكانته اللائقة في قراءة التاريخ واستثمار فلسفته في استدراك النقائص والكرّ عليها، وركوب موجبات القيادة الرشيدة للمجتمعات والدول بالتركيز على علوم الإدارة والاجتماع والفلسفة والقانون. ومن هذه الدراسات الجادة المنصبّة على فحص السنن التاريخية والاجتماعية في حقل تاريخي مهم ومؤسس للتصورات الإسلامية وهو عهد السيرة النبوية كتاب الدكتور عزيز البطيوي والموسوم بسنن العمران البشري في السيرة النبوية، والذي حوى معالم وصوى هادية منها:
أولا- المحاسن الشكلية: وهي كثيرة جدا نقتضب منها الأهم من احتوائه على قائمة ببليوغرافية وافية عكست بعدا استقصائيا استقرائيا مفيدا لما أنجز في الدراسات السننيّة السابقة والمعاصرة. وابتداء فإن المكتبة الإسلامية فقيرة في هذا المجال، وهي حقيقة يجب الإقرار بها، لأن الاعتراف بالمشكل أساس الحل. إضافة إلى تزيين الكتاب بمسرد مهم للأفكار والمصطلحات بما يعين على القراءة وتتبع الأفكار، والتمرّس الحديثي بحسن التخريج بما يبين عن تكامل معرفي ورصانة علمية في التعامل مع المصادر الحديثية، إضافة إلى التوثيق الضافي والشافي للمنقولات وخاصة في السيرة النبوية بما يبين عن أمانة علمية ظاهرة في كل الرسالة.
ثانيا- المحاسن المنهجية: وذلك بالاستقصاء والاستقراء للمصطلحات المدروسة في العنوان بجدارة محسوبة للباحث. والاستيفاء الحدّي للمصطلحات والمفاهيم في القرآن والسنّة والخبرة الإسلامية، وهو ما يعين على تراكم المعارف وتميز الجيد والنوعي وتثمين الجديد فيها بما يبين عن الإضافات النوعية، وهو مشروع جميل تتبنى مثله وتمارسه مجموعة البحث للدكتور الشاهد البوشيخي في الدراسات المصطلحية. والأهم في كل هذا الانطلاقة المنهجية الواضحة في الدراسة، وذلك بالتنبيه والضرب على بعض أمراض القراءات التجزيئية والذرية والتعضية والتنافر في تذكير واضح بصيحات الدكتور طه جابر العلواني، بما يعين على تحقيق التراكم المعرفي في تتبّع آراء المفسرين لألفاظ السنن والعمران وغيرها. والأبين من كل هذا هو الجراءة النقدية في تتبّع تعريفات المعاصرين لموضوع السنن والقوانين التاريخية والاجتماعية.
ومن الميزات الأدبية المحسولة للباحث عدم الاستنكاف عن المعاصرين والأخذ بمقالاتهم ونقدهم كما فعل مع الدكتور محمد هيشور والطيب برغوت، واكتشاف التفردات المميزة لبعض الدراسات مثل دراسة صديق عبد العظيم حسن في رفضه لمصطلح القوانين. والانفتاح على المدارس الإسلامية الأخرى في الموضوع مثل الشيعة كما هو الأمر عند محمد باقر الصدر وعلي شريعتي، وكان الأولى أيضا اكتشاف الموضوع عند المدارس الزيدية والإباضية وعند المعتزلة في نموذج القاضي عبد الجبار في تفسيره وفي كتابه تثبيت دلائل النبوة. فضلا عن دراسات الفلاسفة الإسلاميين مثل إخوان الصفا والفارابي في المدينة الفاضلة وابن باجة وابن رشد وغيرهم.
ولم يغب الحسّ النقدي عند الباحث في محاكمة المفاهيم الغربية، وخطورة نماذجها التفسيرية في مناقشة إمبريقية المقولات، وإن كانت ساحة النقد ضيقة بسبب الحيز المسوح به في مثل هذه الدراسات الأكاديمية المحكومة بالأطر المنهجية. وكل ما سبق ينبئ عن الصبر والجلد الظاهر في الرسالة في تتبّع موارد العمران في القرآن والسنة، والسيولة والقدرة على توليد الأفكار، فالقلم لم ينكسر في كل فصول الرسالة بما يبين عن قراءة واسعة مضنية، والجديد الجميل في هذه الدراسة حضور علم الإحصاء بتوسّل الاستقصاء ونسب الورود، وهو معطى جديد وجميل في الدراسات الإسلامية.
ثالثا- الجوانب الإبداعية: أو ما نسميه بتفكيك المعضلة وردم الهوة، وهي معضلة التطبيقات السننيّة على الحقب التاريخية الإسلامية، وقد بدأت تنقشع في ثنايا الكتاب، إذ أن التنظير للسنن ووجودها وحاكميتها وفاعليتها وثباتها وشمولها كثير جدا في المنشور من الدراسات، ولكن الإشكال والمعضلة أن الدراسات التنزيلية أو التطبيقية قليلة منزورة، إلا ما نجده عن ابن خلدون في بعض فصول المقدمة، أو كتابات محمد الصادق عرجون، أو بعض الإشارات من سيد قطب في تفسيره الظلال، أو ماجد عرسان الكيلاني، وبعض الدراسات المتعلقة بعوامل الانتصار والانكسار في التاريخ الإسلامي.
وأما المدارس الغربية الحديثة فقد قطعت شوطا متوسطا في هذا في فلسفة التاريخ والاجتماع، مع كتابات توينبي “دراسات في التاريخ”، ومن قبله مونتسكيو في “تأملات في أسباب عظمة الرومان وسقوطهم”، أو غوستاف لوبون في كتبه: روح الثورات، وروح السياسة، وفلسفة التاريخ، ونشهد الآن جهدا علميا مؤسسيا في تخصصات علم الإدارة والاجتماع والسياسة وإدارة الجماعات والانتقال الديمقراطي.
إن هذه الدراسة حاولت تطبيق مخرجات السنن من السيرة النبوية في بابها الثاني الذي سُبق بباب نظري تأصيلي تحليلي واسع أهّله لأن يكون رسالة مستقلة في بابه، وهي محاولة رائدة تحتاج إلى محاولات ومراجعات وتتميمات واستدراكات طويلة، وبإمكانها أن تلد عشرات الدراسات الأخرى.
رابعا- الإضافات الموضوعية: وهي كثيرة ومن أهمهاالتأصيل لحجيّة السنن كالتأصيل لحجية السنة النبوية وغيرها من مصادر التشريع الأصلية والتبعية، وتقسيمات السنن وموارد الاختلاف فيها بين الدارسين، والتعرض للتمييز بين الكونية والتاريخية منها، واستنباط خصائص السنن مثل الربانية والثبات والإطراد والعموم والحاكمية. والكشف عن موارد السنن والتي حصرها في: الوحي، القصص، الأمثال القرآنية، السير في الأرض، الأسباب والمسببات، الفطرة -وهي محل إبداع من الكاتب-، الخبرة، التاريخ. والكلام عن طرائق الاستنباط للسنن: التعليل، التعليق بالسبب، استثمار حروف المعاني.
وقد حاول الباحث ربط دراسته بإرث السابقين بالبناء المعرفي على جهود مدرسة المنار وكلامها في أن السنن تقابل علم الاجتماع الغربي، وظهر ذلك في احترام الجهد العلمائي السابق كاجتهادات ابن حزم وابن تيمية والطرطوشي وابن الأثير وابن القيم، وكان الأمر أفضل وأشمل لو عرض الباحث لآراء علماء السياسية الشرعية كابن رضوان في الشهب اللامعة، وابن الأزرق في بدائع السلك، ومن قبلهم الجويني في الغياثي، وكذا الموسوعيون كالمسعودي، والبيروني في الآثار الباقية من القرون الخالية.
كما يظهر بجلاء الارتباط الفكري للكتاب بالمدرسة المقاصدية من الشاطبي، واستثمار المنهج التفسيري العملي للسنن عند ابن خلدون، وكذا التكامل المعرفي مع علم أصول الفقه، في لفتات ابن القيم لاستعمال القياس والتعليل في السنن.
فحضور المدرسة المقاصدية ظاهر في ثنايا الحديث والتأصيل والتنزيل لفقه النص، فقه الواقع، فقه الموقع واستثمار الطاقات، إضافة إلى حضور أحكام المآلات، وهو فقه عميق يتداخل مع السياسة الشرعية.
إقرأ أيضا :
سنن العمران البشري في السيرة النبوية
خامسا- الإضافات التنزيلية: وخاصة في الباب الثاني،حيث كانت فرادة الكتاب في الصلب التطبيقي للرسالة بعد التعبير في خيبة الأمل من وجود دراسات رصينة سالفة، وذلك ابتداء بالتأكيد على منهاجية السيرة في التغيير الاجتماعي وهو ما أشار إليه سيد قطب كثيرا، والتنبيه على أن القرآن قدم منظومة السنن دون التفاصيل والتطبيقات التي كانت في السيرة النبوية التي هي وحدة موضوعية بنائية يتعاضد فيها المكي والمدني.
ثم جاءت الضوابط في قراءة السيرة النبوية في مختلف الأنساق: البنائي والمعرفي والتكاملي والسياقي والمقاصدي والإيماني.
وركز الباحث على عدم الانسياق وراء أسطرة السيرة، على عكس ما نحت إليه كتب الخصائص والشمائل والدلائل التي توسّعت في المعجزات وربما طوحت بالجانب السّنني ودور التخطيط النبوي واستثمار طاقات الصحابة عليهم الرضوان.
ولم تغب النقلة النبوية بالأوضاع الجاهلية عن طريق استحضار التاريخ الثقافي لمكة وعرب الجاهلية، والتغيير الذي تم في مرحلتي الدعوة والدولة، وهنا نشير إلى إشارات الرازي في التدليل للنبوة بالدليل اللمي، ودور شخصية النبي في تغيير الواقع العربي وإدخال الأمة العربية إلى واقع حضاري شاهد وفاعل في التاريخ. وكان إبداعه ظاهرا في تفصيل مفاتيح شخصية النبي صلة الله عليه وسلم من اليتم والرعي والتجارة والزواج، ودور تلك المؤهلات في النجاح المشهود.
ولم يخل الكتاب من الإبداع في العشاريات الفارقة الدالة على التغيير السّنني الحاصل، والتساعيات الضابطة لها، ومنها: المصلحة، الفعالية والأصالة، المآل، الاستباقية الوقائية. والتشريح لمواضيع تكامل السنن، تكاملية منظومات السنن، وجوب منازعة السنن، الارتباط والتناغم بين السنن التشريعية والآفاقية، المبدئية المبصرة، والواقعية المنضبطة.
وكانت الخواتيم جيدة في الكلام عن منظومة القيم المضادة للعمران، كقيم الطغيان، قيم الاستعلاء، قيم المنفعة. وهي مواضيع تحيل إلى قيم الثورة المضادة التي تكلم فيها من قبل مالك بن نبي في نظرياته عن الثورة والاستعمار.
كما أبدع الكاتب في التطبيقات المساندة في السيرة النبوية في قضايا التعليم والأسرى، السوق الموازية، الإحصاء والديمغرافيا في المدينة المنورة. وفي الكلام عن روافع التغيير مثل دعامة العصب الاجتماعية وصناعة القادة، دعامة الكتلة الحرجة والاحتياط الاستراتيجي، دعامة الفرص المتاحة والتهديدات الممكنة، الخصوبة والبدائل وحماية مكتسبات التغيير، والاستشراف.
وعلى كل فالكتاب إضافة فارقة في موضوعه، وفيه جهد لائح، ورصانة منهجية مبينة عن قدرة الكاتب، والكتاب مؤهل لأن يلد عشرات البحوث والدراسات الأكاديمية الأخرى، والمراجعة دعوة إلى القراءة واستثمار النتائج والبناء عليها في مجتمعاتنا التي قد تسير إلى حتفها واضمحلالها ما لم تهتد بالسنن التي وضعها النبي الخاتم في سيرته الرشيدة.