يعتبر القرآن الكريم المكنز الأهم في استقاء سنن الحضارة، وكيفيات صعود الأمم ونزولها، كيف لا وقد حوى قصصا كبيرا عن الأمم السابقة، ودعا إلى الاعتبار من مصائرها المختلفة، وجعل الكثير منها مثلات، محذرا من سلوك القرى الظالمة الباغية: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (الإسراء: 16-17).

مقدمة في قصة ذي القرنين

من القصص التي تستوقفنا في القرآن الكريم قصة ذي القرنين الذي طاف مشارق الأرض ومغاربها،  وكان له بها أثر كبير في إصلاح المجتمعات التي وردها والأراضي التي وطئها، مستصحبا أسباب القوة والتسخير انتصارا لكلمة التوحيد. 

ومن ذلك قصته وخبره مع أصحاب السدّ، حيث يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا  قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} (الكهف: 92-97).

معادلة الحضارة عند مالك بن نبي

لن نعرض لخلاف المفسرين والإخباريين في الأوصاف والزمان والمكان، ولكننا سنقف عند الاستفادة من شروط الإمكان الحضاري التي باشرها ذو القرنين في النهوض بهذه الأمة الجاهلة المستكينة المستضعفة، وجعلها فاعلة في التاريخ، مستأنسين بمعادلة المفكر مالك بن نبي في صناعة الحضارة والإنسان، وهي المعادلة التي نجد لها أصولا كثيرة في القرآن والسنّة والفعل النبوي الرشيد في السيرة والسياسة والتربية التي نقلت العرب إلى الأمة الفاعلة في التاريخ والصانعة للحضارة، بعدما كانوا قبائل متفرقة على هامش الزمن.

مكونات الحضارة عند مالك بن نبي

يعتبر مالك بن نبي الحضارة محصلة لتفاعل ثلاثة مكونات، وهي: الإنسان، والتراب، والزمن، مع شرط وجودي محرك، وهو الفكرة الدينية الدافعة لهذا التفاعل، والتي تصهر هذه المكونات لتصوغ منها الفعل الحضاري.

ولو أردنا تنزيل النظرية أو ربطها بمخرجات القصة، فإننا نجد بجلاء تلك الصوى والمعالم التي تعتبر مفاتيح للفعل الحضاري كله، والذي يواكب الإرادة والفعالية التي تصلح بها النفس البشرية، وتزكو  بها الأخلاق، ليصير العبد بعدها رفيقا للكون في السير نحو العبودية الكاملة لله تعالى، وما يتبع ذلك من الائتمار بأمره، والاسترشاد بهديه في عمارة الأرض بكل جميل،  وهو يعم كل ما ينتجه الإنسان من صغير أو كبير، من الإبرة إلى الصاروخ، ومن جمع قش الأرض وخشاشها ليصير لبنا سائغا للشاربين بعد التدجين والإيناس لما خلقه الله ودرأه على هذه الأرض الذلول، لأن الحضارة لا يستوي سوقها إلا باستطراق الفعالية  والجودة في كل شيىء.

وهو ما يغفل عنه الكثير من الغافلين، ممن يربط الحضارة بالوجه المادي فقط، بالتفنن في الصنائع، أو التكديس للأشياء، أو التباهي بالمباني الضخمة، ومن ثم الاستكثار أو الاستغناء، والبطر والبغي، والتطويح في ذات الوقت بمعاني الخير التي بها قوام الإنسان وكمال البشرية.

والربط المراد بين مخرجات قصة أصحاب السدّ مع ذي القرنين ومعادلة الحضارة عند مالك بن نبي في الآتي:

أ- الإنسان

وهم هنا ابتداء هؤلاء الأناسي الذين وصفوا بالجهل والخور والضعف (لا يكادون يفقهون قولا)، حيث عطّلوا مداركهم العقلية والحسية، وجهلوا الأسباب أو تجاهلوها، واستعاضوا عن ذلك أيضا بالقلّة والدنيّة، فرضوا بأن يرضخوا له خراجا (مالا أو ضريبة) من أجل أن يقوم وجنده بالدفاع عنهم، معطلين لإرادتهم، ومستهينين بقوتهم التي قسمها الله لهم، كما قسمها لأعدائهم من يأجوج ومأجوج، ومرجع ذلك كله هو الخور النفسي.

وشبيه بهذا ما نقوم به نحن من الاستقواء والاستدعاء للآخر ليقوم بمهمات الدفاع عنا مقابل خراج أراضينا. وشواهد ذلك كثيرة على الأراضي العربية التي استباحها الجميع، على الرغم من الإرث الحضاري الشامخ لها.

ولذلك جاء النعي الدائم على المجتمعات الجاهلة العاطلة التي لا تحسن استخدام الأسباب، كما هي قصة أصحاب السدّ هنا، والحل الذي قدمه ذو القرنين لتجاوز معضلة الإنسان الجاهل المستقيل هو استغلال طاقتهم البشرية (فأعينوني بقوة)، وتحريك الإرادة فيهم، وبث الوعي لديهم بمكامن القوة لديهم، لتثور فعاليتهم، فيجتهدوا في الإعداد بالممكن لمجابهة الخطر القائم والداهم.

ب- التراب، الموارد الطبيعية

وذلك بدعوة ذي القرنين لهم باستغلال ما تحت أقدامهم من موارد طبيعية، وهي (زبر الحديد) أي قطع الحديد، ولا شك أن استخلاصها من معدنها يتطلب خبرة وتحويلا وهندسة كيمائية، وكذا (القطران)، وهو النحاس المذاب، وهو ما يستدعي ذات التقنية السابقة، وكل ذلك يستلزم استخدام طاقة النار المتولدة من الحطب أو الفحم، أو غير ذلك، ومجموع كل هذا يستوجب هندسة وتخطيطا، وتفريغا للطاقات وترتيب عملها وتنظيم تعاونها، وهو ما يؤذن بميلاد إدارة وتنسيق وترتيب تقوم عليه الإدارة الحكيمة.

ولأجل ذلك أولى الإسلام العناية البالغة باستغلال الموارد البشرية والطبيعية، فقد أقطع النبي عديد الصحابة المعادن ليستخرجوا منها المواد النافعة (سنن أبي داود، 3058)، وانتبه للعاطلين فندب إلى توفير سبل الإنتاج لهم عمالة أو استصناعا أو مزارعة، أو خدمة، فالبطالة مذمومة، فعن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله يقول: “‌لأن ‌يغدو ‌أحدكم، ‌فيحتطب على ظهره، فيتصدق منه، ويستغني به عن الناس، خير له من أن يسأل رجلا، أعطاه أو منعه ذلك، فإن اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول”. (مسلم، كتاب الزكاة، رقم 687).

ج- الزمن

وهو ما يتطلبه أي فعل حضاري حتى يستوي على سوقه، وهو ما نقتدي فيه بتدبير العليم الحكيم في الخلق والإبداع والتقدير، فإن الأفعال الكونية الكبرى كانت في زمن مقدّر كخلق السماوات والأرض في ستة أيام، وتكوين الجنين خلقا من بعد خلق في تسعة أشهر، وغير ذلك، من الزروع والثمار، وهو ما يوجب علينا إيلاء الوقت دوره في الإعداد والتخطيط والتنفيذ والاستواء والتقييم.

والزمن الذي يُستشف من قصة ذي القرنين هو مجمل الأعمال التعبوية التي باشرها ذو القرنين في الانتقال بهذه الأمة من حالة التسول والخضوع والاستخذاء إلى حالة القوة المكينة التي دفعت شرور يأجوج ومأجوج، وهو ما تم بالعمليات الآتية من:

  • بث الوعي بمكامن القوة
  • تحريك الفعالية
  • استغلال الموارد
  • التخطيط والهندسة والإنشاء (حتى إذا ساوى بين الصدفين-أي الجبلين)

وكل ذلك تطلب وقتا حتى تم الإنشاء واكتمل البنيان وتحققت النتيجة {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}.

د- الفكرة الدينية أو الفكرة الدافعة

وهو العامل الباعث على تحقيق الغايات، ولا شك أنه كان مستبطنا كامنا في واقع أصحاب السدّ من خوفهم القائم من الهجمات التدميرية لأعدائهم المتربصين، ثم جاء ذو القرنين ليبعثه من مكمنه، ويجعله عاملا في تحشيد طاقاتهم، واستغلال مواردهم لاكتمال البنيان، والملحظ أنه في كل هذا كان يربط هذه الإنجازات بالقدرة واللطف الإلهي بما يحرك أشواق العبودية لديهم، (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ)، وأخيرا ربط كل المآلات والمصاير بالله وحده: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} (الكهف: 98).

الخلاصة

كل بناء حضاري وفعل اجتماعي لا يستصحب المعاني المذكورة والمستنبطة من القصة وغيرها مما هو مبثوث في السنن الاجتماعية والتاريخية فضلا عن المادية السببية، سيكون منقوصا، بل ومنقوضا في الأمد القريب:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (فاطر: 43).