شغلت قضية الكسب أذهان الفقهاء منذ وقت مبكر مدفوعين بعاملين: الأول أن السعي لتحصيل المعاش هو من المسائل الجبلية التي حث الإسلام عليها من خلال نصوصه القطعية المتواترة، ولكن كيف يكون الاكتساب حلالا أو كيف يمكن التمييز فيه بين المباح والمحظور كان هو السؤال الذي شغل الأذهان، والثاني الانتشار المتزايد لفكرة أن العمل والسعي يناقض مبدأ التوكل التي روج لها غلاة المتصوفة وأهل التقشف.
لقد اصطبغ المجتمع الإسلامي الأول بصيغة تجارية، فموقع مكة جعلها ملتقى طرق التجارة بين الشمال والجنوب مما دفع أهلها للانخراط في التجارة وتسيير الرحلات التجارية، وحين تأسست الدولة في المدينة كانت هناك نواة نظام اقتصادي قوامه الزكاة وتوزيع غنائم الحرب والجباية، لكنه كان بحاجة إلى تطوير مع اتساع رقعة الدولة وشروعها في التعامل التجاري مع الأمم الأخرى، وهي المهمة التي نهض بها الفقهاء الذين صنفوا كتابات أسهمت في بلورة النظام المالي للدولة ووضعت اللبنات الأولى لعلم الاقتصاد.
وكتابات القوم الأولى في ذلك تناولت موضوعات بعينها، فبعضها تناول النظام المالي أو الأموال ومنها كتاب (الأموال) لأبي عبيد القاسم ابن سلام، وبعضها نظر في الخراج والفيء ولعل أشهرها (الخراج) ليحيى ابن آدم، و(الخراج) لأبي يوسف القاضي، والبعض الأخير درس الكسب ومصادره وأقدم من صنف فيه الإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت: 189ه) تلميذ الإمام أبو حنيفة وجامع أصول مذهبه في الكتب المعروفة باسم (ظاهر الرواية) وله في ذلك كتاب (الكسب).
وبينما ظل التصنيف في الموضوعين الأولين حكرا على الفقهاء، فإن الموضوع الأخير أي الكسب اجتذب اهتمام دوائر أوسع إذ نجد العلامة ابن خلدون كتب عنه فصلا في المقدمة وهكذا صارت لدينا مقاربتين للكسب أحدهما فقهية والأخرى اجتماعية، وفيما يلي نحاول التطرق إلى هاتين المقاربتين حيث ندرسها عند الإمام محمد بن الحسن الشيباني والعلامة ابن خلدون بغرض الوقوف على أوجه الاتفاق أو الاختلاف بينهما.
المقاربة الفقهية: الإمام الشيباني وكتابه الكسب
شغلت قضية الكسب أذهان الفقهاء منذ وقت مبكر مدفوعين بعاملين: الأول أن السعي لتحصيل المعاش هو من المسائل الجبلية التي حث الإسلام عليها من خلال نصوصه القطعية المتواترة، ولكن كيف يكون الاكتساب حلالا أو كيف يمكن التمييز فيه بين المباح والمحظور كان هو السؤال الذي شغل الأذهان، والثاني الانتشار المتزايد لفكرة أن العمل والسعي يناقض مبدأ التوكل التي روج لها غلاة المتصوفة وأهل التقشف.
وعلى هذا تواترت المصنفات الإسلامية في الكسب والعمل منذ القرن الثاني، ومنها: (التكسب) لأحمد بن حرب النيسابوري، و(المكاسب) للحارث المحاسبي الذي حث فيه على التجارة المبرورة وحذر من التجارة المحظورة مع بيان الفروق بينهما، و(الحث على التجارة والصناعة والعمل والإنكار على من يدعي التوكل في ترك العمل) لأبي بكر الخلال الحنبلي وفيه رد على أهل التصوف الذين ركنوا إلى القعود وحذروا من العمل، و(الكسب) لشمس الأئمة الحلواني، و(البركة في فضل السعي والحركة) لمحمد بن عبد الرحمن بن عمر الحبشي اليمني.
وأول ما تجب الإشارة إليه أن كتاب الإمام الشيباني الموسوم ب (الكسب)(1)[1] لم يصل إلينا وإنما فُقد مثل غيره من المصنفات الإسلامية الباكرة، وما بين أيدينا هو رواية تلميذه محمد بن سماعة عنه، وشرح الإمام السرخسي له ضمن كتابه (المبسوط) لكن هذا الشرح أتى مختلطا بكلام الإمام الشيباني وليس متمايزا عنه.
ورغم هذا ينظر علماء الاقتصاد المعاصرون للكتاب على أنه أول كتاب إسلامي في علم الاقتصاد، لأنه كما يقول شوقي دنيا درس قضايا هي من صميم علم الاقتصاد مثل: الكسب، الإنتاج، الإنفاق، التوزيع وغيرها، على حين تناولت الكتابات المعاصرة له قضايا تندرج ضمن ما يسمى “المالية العامة للدولة”(2).
استهل الإمام الشيباني كتابه بتعريف الكسب وأنه “تحصيل المال بما يحل من الأسباب” وحكمه الشرعي هو كونه ” فريضة على كل مسلم كما أن طلب العلم فريضة” وحجته أن الإنسان لا يستطيع إقامة الفرائض إلا بقوة البدن من خلال القوت: والقوت إما أن يكون اكتسابا أو تغالبا أو انتهابا، والانتهاب يستوجب العقاب والتغالب يفضي إلى الفساد فلا سبيل لتحصيل القوت إلا بالاكتساب، والاكتساب قد يكون مالا وقد يكون غيره، فهو أشمل وأعم من المال.
ويتم الاكتساب بالسعي والكد، وله منافع شرعية ومنافع مادية؛ فالمزارع يكتسب لنفسه لكنه يخدم الجماعة بتوفير ما تحتاجه من الغذاء الضروري الذي لا تقام الشرائع إلا به، ومثله الحداد الذي يصنع الآنية التي تستخدم في الطعام ويستفاد منها في الطهارة.
والكسب نوعان: كسب من المرء لنفسه، وكسب منه على نفسه، فأما الأول فهو من يطلب ما لا بد منه من المباح، وأما الثاني فهو من يبتغي ما لا يحل له نحو ما يكون من السارق، وهو حرام قطعا خلافا للأول الذي هو مباح باتفاق جميع أهل المذاهب سوى من أسماهم “جهال أهل التقشف وحمقى أهل التصوف”، هؤلاء الذين يستبيحون القعود ويقتاتون مما كسبت أيدي الذين ينعتونهم بالمتجاوزين في حق أنفسهم لانشغالهم عن العبادة بالعمل، والكسب على مراتب وأوله اللازم الذي يقيم الأود ويفي بحاجات الفرد الأساسية، لكن هذا اللازم غير مستطاع ويجب على الإنسان تجاوزه لأن الإنسان غالبا ما يكون مسئولا عن زوجة وأبناء عليه نفقتهم، أو ربما كان له أب أو أم طعنوا في السن وصاروا محتاجين لمساندته أو غير ذلك من الأسباب الداعية إلى تجاوز مرتبة اللازم والضروري.
ومصادر الكسب أربعة هي: الإجارة والزراعة والصناعة والتجارة، وكلها مباحة عند جمهور الفقهاء إلا أنهم يفضلون الزراعة لأنها أعم نفعا فبها يحصل الإنسان على ما يقيم صلبه ويتقوى بها على الطاعة، أما التجارة على سبيل المثال فليس لها هذه الأفضلية وإنما ينمو من خلالها المال، ويردف الإمام بالحديث عن الحرف التي وصم بعضها بالشرف وبعضها الآخر بالدناءة مثل الحياكة، التي وجدت مبرر وجودها في قوله “إنها من الإعانة على إقامة الصلاة، إذ بها تستر العورات”.
المقاربة الاجتماعية: ابن خلدون وقضية الكسب
أسلفنا أن التصنيف في الكسب لم يقتصر على الفقهاء إذ كتب فيها ابن خلدون فصلا في المقدمة تحت عنوان “في وجوه المعاش وأصنافه ومذاهبه”، وملخصه أن يد الإنسان مبسوطة في العالم تعمل فيه بحكم الاستخلاف، وأن البشر جميعا يشتركون في هذا دون اختصاص لأحدهم عن الآخر، وما يحصل عليه أحدهم امتنع عن الآخر إلا بعوض ” فالإنسان متى اقتدر على نفسه وتجاوز طور الضّعف سعى في اقتناء المكاسب لينفق ما آتاه الله منها في تحصيل حاجاته وضروراته بدفع الأعواض عنها.. وقد يحصل له ذلك بغير سعي كالمطر المصلح للزّراعة وأمثاله، إلّا أنّها إنّما تكون معينة ولا بد من سعيه معها” والمكاسب تسمى “معاشا” إن كانت بمقدار الضرورة والحاجة، وتسمى “رياشا ومتموّلا” إن زادت على ذلك. ثم إن هذا المقتنى إن عادت منفعته على العبد سمي رزقا كالطعام والشراب، وإن لم تعد عليه بصورة مباشرة سمي كسبا، ويشترط في الكسب السعي والقصد خلافا للرزق.
والكسب عند ابن خلدون يتحصل بعدة طرائق:
- إما بانتزاعه من يد الغير عن قدرة وفق قانون متعارف ويسمى مغنما وجباية.
- وإما يكون من الحيوان الوحشي في البر والبحر ويسمى اصطيادا.
- وإما يكون من الحيوان الداجن باستخراج منافعه كالصوف واللبن والوبر والعسل، أو يكون من النبات والزرع ويسمى هذا كله فلاحة.
- وإما من الأعمال الإنسانية كالصنائع من كتابة ونجارة وحياكة وغيرها، وهي الامتهانات [المهن] والتصرفات.
- وإما يكون الكسب من البضائع، ويسمى هذا تجارة.
ووجوه الكسب تنحصر لديه أربع وجوه: هي الإمارة والفلاحة والصناعة والتجارة، والإمارة “ليست بمذهب طبيعي في المعاش” كما يقول لانحصارها في جبايات الملوك والسلاطين، وأما الفلاحة والصناعة والتجارة “فهي وجوه طبيعية في المعاش”، والفلاحة تتقدم عليها كلها لأنها بسيطة وفطرية لا تحتاج إلى نظر وعلم، ولأنها أقدم وجوه المعاش كلها إذ تنسب إلى آدم عليه السلام، وتليها الصناعة في المرتبة التالية لأنها مُركبة وعلمية تصرف فيها الأنظار ولهذا فهي لا توجد غالبا إلا في أهل الحضر ويندر وجودها لدى أهل البدو، وتأتي التجارة في المرتبة الأخيرة لأنها وإن كانت طبيعية إلا أن جل طرقها تحيلات لأجل الحصول على ما بين القيمتين في البيع والشراء، بحيث يكون الربح هو الفارق بينهما، وهي مباحة لكنها شبيهة بالمقامرة، ووجه الشبه إمكان الربح والخسارة فيهما، سوى أن التجارة تقوم على أخذ المال مقابل سلعة أو عوض لا أخذ المال مجانا كما هو الحال في المقامرة(3).
استنتاجات ختامية
وبالنظر في المقاربتين نجد أن مقاربة الإمام الشيباني تنحو منحى إجرائي بسبب غلبة الطابع الفقهي عليها، إذ الفقه عادة ما يتوجه نحو التفصيل والتفريع، على حين تتجه مقاربة ابن خلدون نحو الشمول والتعميم، من جانب آخر كانت مقاربة الإمام الشيباني وشيجة الصلة بالواقع وقضاياه العملية على حين لا نجد أثرا للواقع ابن خلدون التي هي عمل تنظيري يثير الإعجاب، لكن هذا لا ينفي وجود بعض المشتركات فهما ينطلقان من أرضية شرعية نجد صداها لدى ابن خلدون في بعض الآيات والأحاديث النبوية وفي إشادته بكتاب الكسب للإمام الشيباني، وثمة تأكيد على حتمية الكسب وعلى أنه لا يتحصل إلا بالسعي الإنساني، وأن مصادر الكسب أربعة يتفقان على ثلاثة منها: الزراعة والصناعة والتجارة، وأن الزراعة تفوق غيرها من المصادر، وهو ما يحملنا على الاعتقاد أن التشابهات تفوق الاختلافات وأن مردها اختلاف زوايا النظر.
1- هناك عدة تحقيقات لهذا الكتاب، واختلف المحققون في عنوانه، فبينما يذهب الشيخ محمود عرنوس إلى أن اسمه ” الاكتساب في الرزق المستطاب” يقطع الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة أنه “الكسب” معتبرا أن هذه التسمية من وضع نساخ الكتاب حيث وجدت على بعض النسخ، وهي مستبعدة لديه لأن بها تصحيفا لغويا، فضلا عن أن المعاصرين للإمام الشيباني دأبوا على اختيار كلمة دالة معبرة عن محتوى الكتاب، من قبيل: الأموال، الخراج، الكسب.
2- شوقي دنيا، أعلام الاقتصاد الإسلامي، ج1، ص 79.
3- عبد الرحمن بن محمد بن محمد، ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، تحقيق: خليل شحادة، بيروت: دار الفكر 1988 م، ص 177-178.