قبل التطرق للحديث عن كتب السيرة النبوية للأطفال يجب أن نعلم أن السيرة النبوية تقدم تطبيقا عمليا لكل ما ينادي به الإسلام من قيم ومبادئ موجهة للحياة الإنسانية، ففيها نتابع جهود النبي ﷺ في الدعوة إلى التوحيد، ومقاومة مظاهر الشرك والوثنية. ومن خلالها نرصد حركة القيم صعودا ونزولا من خلال الاحتكاك المباشر بين الجماعة المسلمة الأولى وسائر القبائل والملل المجاورة.
كانت السيرة ولاتزال تجربة قوية وغنية، يستلهم منها المسلم معاني التضحية والبذل والعطاء، ويستعرض أحوال النبي ﷺ إنسانا، وصاحب رسالة، ورب أسرة، ثم قائدا لجموع المهتدين إلى الحق. كل تلك المعاني تترجم ما بين يديه من آيات مسطورة، وتجعل من هدي النبي ﷺ في شتى مناحي الحياة قرآنا يمشي على الأرض.
وحتى يجد المسلم الصغير نموذجا يتشربه على صعيد الوجدان والسلوك، فيقتدي به، ويهتدي بأخلاقه ومواقفه، كان لزاما أن تجد السيرة النبوية طريقها إلى كل أسرة وداخل كل بيت، سواء مكتوبة أو مسموعة أو مرئية. وبدون شك فهناك عشرات الإنتاجات التي اهتمت بنقل السيرة النبوية ضمن إطار فني، يستوعب حركة النمو النفسي والعقلي للطفل، ويُجدد عرض أحداثها بما يتناسب مع أبعادها التربوية والاجتماعية. لذا كانت هذه المقالة متابعة بسيطة لبعض تلك الجهود التي بُذلت لتقريب السيرة النبوية من عالم الطفولة، وتقييما لمدى تجاوب كُتابها مع الإشكالات المتزايدة لتربية إسلامية في عالم متغير.
سبق للشيخ محمد الغزالي أن نبّه إلى معطى تربوي بالغ الأهمية، حين صرّح في خاتمة كتابه (فقه السيرة) قائلا: ” قد تظن أنك درست حياة محمد ﷺ إذا تابعت تاريخه من المولد إلى الوفاة، وهذا خطأ بالغ. إنك لن تفقه السيرة حقا إلا إذا درست القرآن الكريم والسنة المطهرة.
ودلالة هذا القول تنبئ عن استشعار للفارق الكبير بين الهيكل العام للسيرة النبوية، كما دأب كُتابها على تقديمه منذ ابن اسحق، وأعني الخط الزمني الممتد من عام الفيل، أو حال شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، وصولا إلى فتح مكة، وبين الشخصية المحمدية في إطارها الكلي، بما تحيل عليه من شمائل ومواقف وتصرفات عملية، تضع لمبادئ الدين وأحكام الشريعة قابلية التحقق والتنفيذ.
سيرة نبوية مصورة
شكلت السيرة النبوية المصورة التي أعدها كل من علي أحمد لبن وعبد الحميد توفيق وأحمد عبد الرازق، والصادرة عن دار الآفاق سنة 2005، خطوة فنية متقدمة، اعتمدت الحوار المرفق برسوم معبرة، تُيسر للطفل فهم السيرة والإقبال على قراءتها. هذا الأسلوب الجذاب يُعلي من القيمة الفنية لأدب الأطفال عموما، خاصة في ظل ثورة للاتصال تشهد صعود ثقافة الصورة في مقابل تراجع لثقافة الكلمة.
حرص هذا العمل على ترتيب زمني لأحداث السيرة من خلال المزج بين لغة الراوي وحوارات مبسطة، سعى من خلالها المؤلفون لتطويع أخبار السيرة كي تتناسب مع بنية القصة الفنية. فكانت البداية مع خبر المنام الذي يُؤمر فيه عبد المطلب بحفر بئر زمزم، ثم النذر الذي يعد فيه بذبح أحد أبنائه إذا رُزق عشرة منهم. وهي بداية غير مألوفة بالنظر إلى أن أغلب قصص السيرة النبوية تتخذ من حادثة الفيل منطلقا لرسم وتتبع الأحداث.
غير أن الترتيب الزمني المعتمد بدا مفككا، يُخلّف في ذهن الطفل تشويشا حين ينقله من حدث إلى آخر دون تبرير معقول. فعلى سبيل المثال في الفصل المخصص للحديث عن رضاعته ﷺ، يُفاجأ القارئ الصغير بهذه العبارة: ” وصلت إلى مكة قافلة المراضع”، ثم شكوى سيدة من عجزها عن إيجاد طفل أبوه ثري، لتجيب أخرى ” عليك باليتيم الذي يسمى محمدا”. هكذا دون أن يتلقى الطفل أية إشارة حول هذه العادة، أو مبرر لإرضاع يتيم فقير سوى قول زوجها:” عسى أن يكون مباركا”.
ومما يلفت الانتباه أيضا خلو العمل من الإشارة إلى مظاهر الشرك والوثنية في سلسلة الأحداث التي سبقت مولده ﷺ. بل إن لغة الحوار تجعل من أهل مكة مسلمين موحدين قبل البعثة، كما أن المشاهد المتضمنة لساحة الكعبة خالية من أي صنم أو وثن. لذا يُفاجأ القارئ في الفصل المخصص لنزول الوحي بعبارة ورقة بنو نوفل” وإن قومك سوف يحاربونك ويخرجونك من مكة” دون أن يدري سببا لهذه العداوة.
إن التصرف في الخط الزمني للسيرة النبوية لايعني المساس بأبعادها التي تشكل هوية الطفل المسلم وقيمه، خاصة الأساس العقدي الذي يفصل بين أحداثها بخط واضح لا غبش فيه. ومعلوم أن الانقلاب الهائل الذي أحدثته الدعوة المحمدية في مكة ثم في سائر البلد حولها يرجع بالأساس إلى مبدأ التوحيد الذي هدم بنية الشرك وامتداداتها في المجال الاجتماعي والاقتصادي.
سيرة الرسول للأطفال: قصة أم كتاب تعليمي؟
تبدو “سيرة الرسول للأطفال” التي كتبها الشيخ محمود المصري، ونشرتها مكتبة الصفا بالقاهرة سنة 2010، مستوفية لأحداث السيرة ووقائعها. وقد أعلن المؤلف في مقدمة الكتاب أن هدفه هو أن يعرف الأطفال كل شيء عن سيرة الحبيب المصطفى ﷺ، ثم استدرك قائلا بأن السيرة ليست قصة نتسلى بها، ولكن لنتأسى بالنبي ﷺ في كل أقواله وأفعاله. إذن فالمطلوب هو أن يعرف الأطفال كل شيء عن نبيهم كي يتأسوا بكل أقواله وأفعاله.
حاول المؤلف الظهور بمظهر الحكواتي الذي يسرد قصة مفعمة بالمغامرات والأحداث المشوقة، لكن سرعان ما انهار البناء الفني المتوقع أمام استعراض مثقل بالتفاصيل لجل أحداث السيرة. فأمام كل فصل من فصولها يشعر القارئ أن مراد المؤلف هو تلقينه كل المعلومات المتعلقة بالحدث أوالشخصية. هكذا يجد القارئ نفسه ملزما، بعد الحديث عن زواج النبي ﷺ من خديجة، بأن يقطع شريط الأحداث، ويتابع مع المؤلف بهذه المناسبة ورقة تعريفية تتضمن أزواج النبي ﷺ وأولاده. ثم يعود في صفحات موالية ليطالع خبر زواج النبي ﷺ بعائشة وسودة على امتداد خمس صفحات.
حرص المؤلف على أن يربط جل أحداث السيرة بالآيات والأحاديث التي تُسندها وتؤكدها. ولم ينس عزو الأحاديث إلى مصادرها من كتب السنة المعروفة. بل واكتفى في بعض أحداث السيرة بإيراد الحديث دون تعقيب أو توضيح. فتحت عنوان :” لاتسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين” ينقل حديث عائشة رضي الله عنها كما جاء عند الحاكم وصححه الألباني، تاركا القارئ في حيرة إزاء الغاية من هذا الحديث، خاصة وأن ورقة بن نوفل كان مؤيدا ومناصرا للنبي صلى الله عليه في مبتدأ دعوته.
بين الفينة والأخرى يخاطب المؤلف قراءه الصغار بعبارة ” حبايبي الحلوين” في إشارة إلى أنه بصدد “حكي” مشوق يتناسب مع الخصائص الفنية لأدب الطفل. في حين أن هذا العمل يستوعب السيرة النبوية كمادة تعليمية، تلبي حاجات المتعلم وفق منهج محدد.
ورغم أن هدف المؤلف هو تحقيق غرض التأسي، إلا أن هيمنة الجانب المعرفي لم تسمح بالتوقف عند عشرات القيم التي تنطوي عليها أحداث السيرة النبوية ومواقفها. كما لوحظ إخلال بالبناء الفني الذي لا تتحقق المتعة إلا من خلال مزجه بالحدث، لتتجدد الدعوة إلى ضرورة إلمام كاتب السيرة النبوية بأساليب الكتابة الفنية للأطفال، عملا بالمقولة الجميلة للدكتور أحمد الشرباصي: “على عالم الدين أن يتفنن، وعلى الفنان أن يتدين”.
سيرة نبوية للطفولة المبكرة
كل قصة بالنسبة للطفل هي خبرة ذات معنى، فهي تُمكنّه من الربط بين ظروفه الشخصية وما تحمله من قيم ومواقف، وبين تلك التي يعيشها أبطال القصة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تثير فيه عواطف متباينة، من فرح وحزن وخوف و قلق وغيرها. وتؤكد أبحاث الدماغ الحديثة هذا المعطى من خلال توصلها إلى العناصر الثلاثة التي تُشكُل المعنى في الذهن وهي: الرؤية ضمن سياق، واستشعار الصلة، وإثارة العواطف(1). من هذا المنطلق تُشكّل السيرة مدخلا لغرس القيم منذ سن مبكرة، شريطة استيعاب العمل للمرحلة النمائية المستهدفة من حيث خصائصها النفسية والتربوية.
وتعد الكتيبات والكراسات الملونة وسائل لتقريب النشء من مضامين السيرة النبوية منذ سن مبكرة، شريطة تيسير لغة الكتابة، والاستئناس بمعاجم لغة الأطفال، والقوائم التي يُعدّها تربويون متخصصون.
ويجد الباحث على شبكة الانترنيت كُتيبا إلكترونيا أعدته جمعية الشيخ الخطوي بتونس بعنوان ” سيرة الحبيب ﷺ مع أنشطة متنوعة للأطفال”، يتضمن عرضا شيقا لأهم محطات السيرة النبوية، ونماذج لخلق النبي ﷺ مع زوجاته وأبنائه وأصحابه وبقية الناس.
يقع الكتيب في حوالي سبعين صفحة، تتوزع بين مواده بين التعريف بالنبي ﷺ وزوجاته، وأهم الأحداث التي صاحبت دعوته، وبين عرض مواقف تُظهر شمائله الكريمة، ومعاملته لكل فئات المجتمع، بالإضافة إلى أنشطة فنية تتضمن التلوين، والتمييز بين السلوك المقبول والمرفوض، والإجابة عن أسئلة تدور في مجملها حول مكتسبات الطفل من محتوى الكُتيب.
لم يهتم الكُتيب بعرض أحداث السيرة النبوية ضمن ترتيبها الزمني المعهود، بقدر ما تم التركيز على تصرفات النبي ﷺ في مواقف مختلفة مع الأهل والأحفاد والأصحاب. وبالتالي فالبعد القيمي كان حاضرا بشكل واضح لتقريب الطفل في سن مبكرة من نموذج للاقتداء.
تندرج تحت مظلة أدب الأطفال اليوم أجناس أدبية، وصيغ ووسائط مثيرة ومتنوعة، بدء بالخرافات والحكايات الشعبية، ووصولا إلى ألعاب الكومبيوتر والتطبيقات الإلكترونية. وخلف هذه الإنتاجات تتوارى قيم ورسائل، تؤثر في تشكيل فكر الصغار وفهمهم للعالم ونقده وتعديله، فيتردد صداها منذ نعومة أظافرهم ليُسهم بشكل خطير في غرس بذور التغيير الاجتماعي المنشود. وبين يدي كُتاب هذه الأمة وفنانيها ملحمة إنسانية خالدة، تُشبع حاجة صغارها إلى الخيال والقيم والعاطفة الصادقة، لكنها بحاجة إلى رؤى فنية مبدعة، وتقنيات مبتكرة تحررها من الأساليب القديمة التي تُقيد الإحساس والتخيل والفهم. ويكشف السلف عن بُعد نظر في هذا الباب حين يقول الإمام أحمد بن حنبل: ما أحوج الناس إلى قاص صدوق.