نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أمس الأربعاء 13 فبراير 2019 ضمن سيمناره الأسبوعي محاضرة بعنوان: “كيف صنع معجم الدوحة؟ من معضلة النص إلى دقة البناء”، ألقاها د. محمد الخطيب الخبير اللغوي بمؤسسة معجم الدوحة التاريخي للغة العربية.
وقد نبه المحاضر في مستهل كلمته أنه تعمد عدم الحديث عن المعجم مؤثرا الوقت للحديث في المعجم، مؤكدا على أن أي أمة تريد أن تنهض لا بد أن تؤسس نهضتها على لغتها، مستعيرا كلمة الفيلسوف والشاعر الهندي محمد إقبال أن شرط نهضة الأمة الإسلامية هو انتقالها من ذل الأخذ إلى عز العطاء.
وقد بين المحاضر في المحور الأول المتعلق بمعضلة النص؛ كيف كان العاملون بالمعجم من علماء اللغة العربية وخبرائها يعانون في سبيل تدقيق لفظ واحد، وكان كثير من الباحثين الذين يراقبون العمل من خارجه يرون ذلك مجرد ترف غير ضروري، إلا أن أهل المعجم كانوا مدركين لقيمة ما يعانون في سبيله، ذلك بأن المعجم هو شرع اللغة، فكما لا يجوز إدخال ما ليس من الدين فيه ولا إخراج ما هو منه دون دليل صحيح واضح، فإنه لا يجوز إدخال لفظ في المعجم ولا إخراجه منه إلا بدليل.
لذلك واجه العاملون في المعجم نصوص التراث غير المخدومة بمنهج يقوم على أن الأصل عدم براءة النص من التحريف أو التصحيف، ولذلك كانوا يدققون في كل لفظ ويقلبونه على أكثر من وجه حتى يتبين أنه اللفظ الذي نطق به العربي دون تبديل.
وقد كان هذا التدقيق يأخذ أياما وربما أسابيع في سبيل لفظ واحد، قد يتبين بعد التعب فيه أنه بصيغة أخرى وغير داخل في ذلك الجذر الذي كان مدرجا فيه دون روية، أو يتبين أنه مسبوق المعنى أو أن قائله متأخر زمنيا عن المرحلة الأولى للمعجم، وقد نتج عن هذه الأمور ما سماه المحاضر بما لم يعرف من المعجم، وهو موجود وسيفيد في مراحل لاحقة أو في مباحث لغوية أخرى.
وقد بين المحاضر أنه ما تزال نسبة تقارب 90% من تراث الأمة غير محققة، وأن المحقق رغم قلته فيه كثير من الهنات والأخطاء التي تجعل التعامل معه يتطلب قدرا من الخبرة والحذر معا، ذلك بأن تحريف لفظ قد يؤدي إلى تحريف تاريخ كامل، وقد ضرب المحاضر لذلك مثلا لذلك ما قام به لويس عوض من بناء تاريخ مزيف لحلب بناء على قراءة خاطئة للفظ في بيت لأبي العلاء المعري، حرف فيه كلمة (الصُّليان) وهو نوع من الكلإ، فقرأها (الصلبان)، وقرر بناء على ذلك أن تلك الفترة كانت فترة انحسار الإسلام وامتداد المسيحية في حلب.
كما أن من معضلات النص التي واجهها العاملون في معجم الدوحة استقرار بعض المعاني الخاطئة لبعض الألفاظ عبر عقود أو قرون بناء على تحريف الناسخ أو المحقق لها، ومن ذلك تفسير قوله تعالى: (كل يعمل على شاكلته) فقد قال أحد المحققين أن معنى على شاكلته (على حدته) أو على (حد يليه)، وبعدما شك المعجميون في الدوحة في صحة هذا المعنى، فتحوا تحقيقا في المسألة أداهم إلى تدقيق اللفظ واكتشاف تحريفه، حيث هو (على جديلته)، وغير ذلك من معضلات النص التي تعرض لها القائمون على معجم الدوحة وتجاوزوها بكثير من الصبر والتضحية.
أما في موضوع دقة البناء المنهجي لمعجم الدوحة فقد تحدث المحاضر عن الدليل المعياري الذي وضعه المجلس العلمي للمعجم، والذي كان معلما منهجيا هاديا لعمل المعجميين والخبراء، وقد ظل الدليل المعياري يتطور ويُحَدَّث منذ تأسيس المعجم حتى استوى على سوقه.
ومن معالم الدقة في بناء معجم الدوحة كون الجذاذة الواحدة تمر على سبعة علماء وخبراء، فتخرج من عندهم زكية ناضجة قد اكتملت مبنى ومعنى، فبعد المعالج يأتي المراجع ثم المتابع فالمدقق فالمحرر فمراقب الجودة ومن ثم تعتمد للنشر، كما أن من تلك المعالم الدقة في المنصة الحاسوبية التي تسهل على المتصفح الوصول للفظ والتعرف على معناه وقائله ومصدره وتاريخ قوله أو تاريخ استعماله إلخ.
وقد عرض المحاضر لفرادة معجم الدوحة التاريخي مبينا بعض جوانب تلك الفرادة، فهو فريد لأنه أول معجم تاريخي للغة العربية، حيث كانت المعاجم التي سبقته من لدن معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت170هـ) إلى المعاجم الحديثة؛ كانت تلك المعاجم كلها تعنى برصد ألفاظ اللغة العربية وبيان معانيها دون أن تضعها في ترتيب تاريخي يمكن من رصد تطور مبانيها ومعانيها.
وبين المحاضر أن معجم الدوحة سيفتح آفاقا واسعة للبحث ليس في اللغة فقط وإنما في مجالات علمية عديدة، ذلك بأن ذلك الترتيب التاريخي لورود الألفاظ سيؤدي إلى خلخلة كثير من المسلمات العلمية التي كانت مستقرة أيام كانت اللغة غير مؤرخة تأريخا منهجيا، كما أنه أصبح ملهما لكثير من المبادرات التي انطلقت معه أو بعده محاولة وضع معاجم تاريخية أو عامة أو خاصة.