لكل مقام مقال: حديث عن مراعاة الأحوال والمقامات فالناس ليسوا على درجة واحدة من الفهم والإدراك، ولا على درجة واحدة في الحرص والرغبة، وقدرات الناسِ تختلف في الفهم والاستِيعاب للأُمورِ، والأحوال تؤثر في النفوس، والمقامات تتباين، ولا بد من مراعاة ذلك في الخطاب والتوجيه والتعليم والنصح والإرشاد والعتاب وغير ذلك.

يمكننا ملاحظة هذا المبدأ التربوي العظيم في تدرج التشريع ؛. تقول عائشة ـ رضي الله عنها: “إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصَّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر؛ لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا؛ لقالوا: لا ندع الزنا أبداً..”. وكذا كان المنهج النبوي يقوم على التدرج ومراعاة الحال.

روى ابن ماجه عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: “كنا مع النبي ونحن فتيـان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيماناً”.

ومما يؤكد هذا المبدأ  قول علي رضي الله عنه: “حَدِّثُوا النَّاسَ، بما يَعْرِفُونَ أتُحِبُّونَ أنْ يُكَذَّبَ، اللَّهُ ورَسولُهُ”، وقول ابن مسعود رضي الله عنه: “ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة”.

وروى البخاري في صحيحه قال: باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا” وذكر تحته حديث أنس رضي الله عنه قال: ذُكِر لي أن النبي -- قال لمعاذ: “من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة» قال: ألا أبشر الناس؟ قال: لا؛ إني أخاف أن يتكلوا.

قال العيني رحمه الله شارحا: “وفي الحديث بيان وجوب أن يُخَصَّ بالعلـم الدقيــق قـومٌ فيهـم الضبط وصحـة الفهـم، وأ لا يُبذل لمن لا يستأهله من الطلبة ومن يخاف عليه الترخص والاتكال لتقصير فهمه”

ومعنى ذلك أنْ نُكلِّمَ النَّاسَ على قَدْرِ عُقولِهم وبما يَفهَمون، ونَترُكَ ما قد يَشتبِهُ عليهم ويَصعُبُ فَهمُه.

 فإنَّ الناسَ إذا سَمِعوا ما لم تُحِطْ به عُقولُهم، قد يُبادِرون إلى تَكذيبِه، وقد يفتن به بعضهم، ولهذا فالحديث إلى العامَّةَ ليس كالحديث لطلاب العلم. وعليه فلا بد من مُراعاةُ أحوالِ المُخاطَبِ في قُدرتِه على الفَهمِ.

في الجامع الصحيح للإمام البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في آخر حجة حجها قبل وفاته سمع رجلا يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا، فو الله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت! فغضب عمر لذلك، وتوعد أن يخطب الناس عشية ذلك اليوم، لكن عبد الرحمن بن عوف راجعه في ذلك بقوله: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رَعاع الناس وغوغاءهم! فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهِل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها”.

أيضا النفوس لها إقبال وإدبار ولها حالات رضا وحالات ضيق وسخط، وقد قال بعض السلف: (إن للقلوب إقبالًا وإدبارًا ونشاطًا وفتورًا، فإذا أقبلت أبصرت وفهمت، وإذا انصرفت كلَّت وملَّت، فخذوها عند إقبالها ونشاطها، واتركوها عند إدبارها وفتورها)

حري بالمربي والمعلم والناصح مراعاة هذا المبدأ، وسيجني ثمرة ذلك وسيصل إلى مبتغاه.