يستشهد الكثير منا بالحديث القائل ( كما تكونوا يولى عليكم ) وفي رواية ( كيفما تكونوا ) ، ذاهبين بذلك إلى إسكات الشعوب المطالبة بالحقوق الشرعية والطبيعية لها في التغيير و الحرية والعيش الكريم والكرامة الإنسانية ، موجهين لهم إلى إصلاح الذات والمجتمع وترك ما لله لله وما لقيصر لقيصر . ولعدم التدخل الصارخ أو الصريح في شؤون الدولة .. فما فيها من قصور وخلل إنما يرجع السبب فيه للمجتمع الذي أفرز السلطة الحاكمة الجاثمة على الصدور والمقيدة للعقول !.
لكن المتأمل في الحديث والمراجع لأقوال العلماء فيه ، يجد الكثير منهم قد ضعفوه .
فالحديث ” رواه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي بكرة، ورواه البيهقي عن أبي إسحاق السبيعي مرسلاً. وقد ضعفه غير واحد من أهل العلم، منهم من المتقدمين الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله ومن المتأخرين الشيخ الألباني رحمه الله فقد جمع طرقه في سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/490. وحكم عليه بالضعف ” . إسلام ويب . رقم الفتوى: 18065.
بل حتى من حيث المتن ، المعنى فيه لا يستقيم – لا كما يزعم البعض – فالتاريخ مليء بالشواهد على أمم وشعوب ومجتمعات فاسدة خرج منها صالحون وحكموا البلاد وتولوا شؤونها رغم فساد الرعية ! .
فالملأ من بني إسرائيل الذين أخرجوا من ديارهم وأبنائهم مع فساد حال الأغلبية منهم ، قادهم طالوت الملك الصالح الذي اصطفاه الله . ولا أدل على انحرافهم الفكري والسلوكي ، من قول الله ( فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين ) . البقرة : 246 .
فقد وصفهم بالظلم لأنهم نكصوا وارتدوا على أعقابهم عندما فرض عليهم الجهاد ، وهو وصف قبيح لا يليق إلا بالمجتمعات الفاسدة ..
و قال فيهم أيضا : ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (247).
فقد عبروا عن نعرة جاهلية ومعيار منحرف في تقييم القيادة والرجال .. ناهيك عن الاعتراض على أمر الله ، فالتعيين جاء منه سبحانه ، ومع ذلك اعترضوا عليه وأبدوا استياء تجاهه .
فالقوم إذا ينخر فيهم الفساد ومع ذلك قادهم الرجل المؤمن الصالح لمعركة التحرير وانتصروا .
و أهل الكوفة الذين ما نصب عمربن الخطاب رضي الله عنه صحابيا من خيرة الناس إلا وقدحوا فيه وفي حكمه و قيادته ، مع جلالة شأن من حكمهم وعظم إيمانهم وأمانتهم .
حتى إنهم قالوا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : ” إِنّهَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ ، وَلاَ يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ.” !.
ولو تتبعنا التاريخ الإسلامي والبشري عموما ، لوجدنا الكثير من ذلك .
فلا يصح القول إذاً إن هذا الحديث من حيث المعنى سليم لا تشوبه شائبة .
وإن سلمنا جدلا بهذه الفكرة التي في الحديث ، فهل تبقى الشعوب تصلح ما فيها حتى يستوي الجميع ويبلغوا حدا معينا من التقوى ، ويستقيموا كلهم عن بكرة أبيهم . حتى يخرج منهم الصالح المأمول الذي يقودهم ؟!
إن هذا مخالف لسنن وقوانين إلهية وشواهد قرآنية ونبوية .. قال تعالى ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) يوسف:103. وقوله ( ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ) .الصافات : 37 .
وغيرها الكثير من النصوص التي تشير بوضوح إلى ندرة ذلك وكونه استثناء في السلوك المجتمعي حتى لا يكاد يقع ، وليس قاعدة كلية نحتكم إليها .
إن ما أخشاه إن بقينا في أسر هذه الفكرة ، أن نقع في ما يسميه أهل المنطق بـ( الدور ) والذي خلاصته بالمثال المشهور : هل الدجاجة قبل البيضة أم البيضة قبل الدجاجة !!
فأخشى أن نبقى في دائرة : هل الشعوب فسدت فخرج منها الفاسد الذي يحكمها أم أن الحاكم هو الذي فسد فأفسد الرعية ؟. وهكذا دواليك بلا فائدة مرجوة .
خلاصة القول : إن المطلوب من الأمة الإصلاح في شتى المجالات وشتى الطرق وعلى مختلف الصعد بالحكمة والموعظة الحسنة ، والسعي الحثيث لتغيير الواقع قدر المستطاع دون أن يستثنى حاكم أو محكوم ، وعمارة الأرض بالخير والعدل لتحقيق الكرامة الإنسانية .