إحدى معوقات النهوض في العالم العربي والإسلامي هو أنه يسعى للتطور في مسلاخ الحضارة الغربية، ولذلك تتحول كل نظريات ووسائل التطوير إلى تمتين للعوائق والقيود، أبرز ملامح هذا الاختلال البنيوي هو مسألة اللغة، حيث ما تزال نخبنا تختلف حول اللسان الذي ينبغي أن يعبر عن أطروحاتنا النهضوية، بالتأكيد بعض أولئك الصادقين يراه اللسان الإنجليزي أو الفرنسي، هذه هي العماية التي لا فكاك من التخلف قبل التحرر منها.
تقول عِبَرُ الدول التي نهضت فعليا في عصرنا الحديث أن تأسيس النهوض على اللغة الأم هو أحسن تدبير لأزمة التخلف، أقامت اليابان نهضتها على اللغة اليابانية واستطاعت الصين أن تدخل العالم باعتباره قوة دولية باعتمادها على اللغة الصينية المعقدة والجامدة، وغير ذلك من الدول، ولعل في مخرجات التعريب الذي عملته سوريا والعراق خير شاهد على ذلك، حيث تقول الدراسات إن أكثر العباقرة والعلماء العراقيين والسوريين كانوا من مخرجات ذلك الإصلاح الموفق.
من المهم أن نفهم أن اللغة ليست أداة اتصال فقط، لا بالتعريف الألسني ولا بالتعريف الفلسفي ولا في علم الأعصاب والتشريح، هذا تبسيط شائع بين العامة لا يستند إلى أي أثارة من علم نظري ولا تجريبي، بل العلم النظر ي والتجريبي يرفضانه، اللغة شيء أكبر وأكثر من مجرد (اتصال)، أتحدث هنا عن اللغة في دلالتها الاصطلاحية وفي معناها المعجمي الصلب.
لا يدخل في اللغة التي أعنيها هنا إشارات خلية النحل التي تتفاهم بها وإشارات المرور الصماء التي يفهمها كل أحد لأنها قائمة على رموز محدودة، بل يمكن للحيوان أن يدرب عليها أو يتعلمها بالتعود، أتحدث عن اللسان، أي ذلك النظام الرمزي الغامض الذي من أخص مميزاته المجاز، والذي يختص به الإنسان دون سائر المخلوقات التي نعرفها.
القرآن كان دقيقا حين فرق بين اللسان والمنطق، وخص ما يتفاهم به غير الإنسان من المخلوقات بمصطلح “المنطق” (عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ)، أي ما يقوله، وأخبر عن لغة الإنسان باللسان، “وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ”، فمجرد النطق لا يسمى لسانا.
كل تعريفات اللغة حرصت على إدراج كلمة (قوم) في متنها، وأقدم ذلك قول ابن جني: “حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”، وكلمة (قوم) تحمل معنى الدين والثقافة والعادات والتقاليد، لأنه في علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) لم يوجد إنسان بلا دين وثقافة وتقاليد وعادات، أحرى (قوم) بينهم مصالح ومحاجزات بتعبير الطاهر بن عاشور.
اللغة هي الفكر والفلسفة والتاريخ والأدب والاقتصاد والعلوم البحتة والتدين أيضا (أنماط التدين تتأثر بطبيعة الوعي اللغوي للنص الديني ومن ذلك الفروق بين نسك العرب ونسك العجم بدون قدح أو تزكية لأي منهما)، كما هي الاستعمار وقابليته أيضا.
من الإطلاقات العامية أيضا مقولة: “(ليس هناك “لغة للاستعمار” و”لغة للاستقلال”)، وهذه فرية لا علاقة لها بالحقيقة، الإنسان يفكر باللغة، ولذلك كان أول خطوات فصل تركيا عن سياقها الحضاري هو وضع حظر صارم على اللغة العربية في كل مستويات اللتواصل؛ اللفظي (الكلام) والخطي (الكتابة) والرمزي (الحرف)، وبنفس النظرية تعاملت فرنسا مع مستعمراتها (الجزائر شاهدة على التطرف الفرنسي في محاربة اللغة العربية من أجل استمرار استعمارها باعتبارها ولاية فرنسية في المغرب العربي).
الحقيقة أن الاستعمار اللغوي الثقافي هو أخطر وأبشع أنواع الاستعمار، لأنه لا يستثير المقاومة من عامة الناس، ولا يفطن له إلا النبهاء وهم قلة في كل أمة، استطاعت حركات التحرر والمقاومة في المغرب العربي وبقية إفريقيا أن تطرد الاستعمار القاسي من بلادها، ولكن قادة تلك الحركات وجماهيرها وقعوا في شباك الاستعمار الفرنسي الناعم الذي أطلق عليه اسم ” Organisation Internationale de la Francophonie المنظمة الدولية للفرانكوفونية”، وفي أحضان تلك المنظمة الاستعمارية تم ترويض قادة حركات التحرر وتأهيلهم ليصبحوا مدافعين عن ثقافة وقيم المستعمر الذي كانوا يحاربونه.
من المهم إذن أن تفهم نخبنا أن اللغة أحد أهم العجلات التي سيسير بها قطار الأمة للأمام أو يتراجع إلى الخلف أو يبقى آسنا في مكانه الراهن، اللغة بالمناسبة قضية ميتافيزيقة؛ أتحدث هنا عن اللغة باعتبارها “نظاما رمزيا”، وتعليم آدم الأسماء هو دليل ميتفايزيقية اللغة.
المشكل المزمن أن أبناءنا لا يتعلمون بلغتهم الأم التي يمكن أن تتماهى وتتفاعل مع أذهانهم بشكل يضمن الانطلاق الذهني والابتكار، وأن منغصات غياب النشأة الأولى داخل اللغة الأجنبية ستظل تشكل كوابح ذهنية لهم تحد من ذكائهم وتميزهم، وستكون النتيجة غياب التميز في التعلم وغياب الأصالة في التفكير، ولا يمكن أن ينهض بالأمة أنصاف أذكياء ولا مسلوبي أصالة.