تيار “الما بعديات” أصبح سمة في التفكير الغربي، لا يترك مساحة لراحة العقل، فالغرب بات شغوفا باليوم التالي، وإغراء القفز إلى المجهول يغري بالتفكير في المستقبل، غير أن ذلك التيار يعبر عن اللايقين الذي صار حالة ملازمة للغرب الباحث عن تجديد حيويته والحيلولة دون وقوعه في براثن الخواء الروحي، فالتيار تعبير عن القلق الباحث عن طمأنينة مفقودة، فالقلق يسكن مفاصل الحضارة الغربية، لذا فـ”ما بعد الغرب” هو سؤال وجودي للحضارة الغربية وليس سؤالا عارضا، وربما هو تيار يحمل وعيا كامنا بالدور الرسالي للحضارة الغربية في العالم[1]، وتعبير عن كون الذات الغربية أصبحت هي المعيار لجوهر ماهية الإنسان المعاصر، فالتحدي الذي يطرحه المفهوم الجديد نتاج أزمة على مستوى عقل الغرب وروحه، وبناه المجتمعية وقوته العسكرية والمنافسة الدولية من النماذج الأخرى خاصة الصيني.
وقد نشأ تيار “الما بعديات” مع نشأة أمريكا، التي خرجت من أوروبا وخرجت عليها راغبة في تأسيس بداية جديدة تكون هي بدايتها، فعقدة الاستبراء الأمريكية من مصدرها الأوروبي نقطة مهمة في فهم “الما بعديات“، ومن هنا يمكن فهم التشارك بين أوروبا أمريكا باعتبارهما جناحا الغرب في العالم، وكونهما كتلة حضارية واحدة، وإشكال “ما بعد الغرب” يخصهما معا، وفي هذا الإطار صدر العدد السابع عشر من مجلة الاستغراب خريف 2019 في 330 صفحة يحمل ملفا عنوانه “ما بعد الغرب: الفزع الأكبر من اليوم التالي“.
الروح وما بعد الغرب
أحدث أرسطو تحولا كبيرا في سؤال الفسلفة، فإذا كان أفلاطون رأى أن الفسلفة هي: “العلم بالحقائق المطلقة المستترة وراء ظواهر الأشياء“، وبالتالي فالسؤال الفلسفي يهدف إلى الكشف عن حقيقة الوجود، فإن أرسطو رأى أن “الفسلفة هي العلم بالأسباب القصوى للموجودات، أو هي علم الموجود بما هو موجود” ومع السؤال الأرسطي أصبحت الميتافيزيقيا ملحقة بعلم المنطق، وهو ما أحدث تغيرات في بنية العقل الفلسفي اليوناني امتدت إلى عصر الحداثة الغربية، حيث آنس أرسطو بالطبيعة وركن إليها فكانت سلواه عن الإله، ورضي بما يقع في مرمى النظر ليؤدي وظيفته كمعلم أول لحركة العقل، هذا التوجه الفلسفي أوقع العقل في حيرة وأدخله متاهة لم يخرج منها، وأصبحت الميتافيزيقيا علما أرضيا، لذا لم يهتم أرسطو بمعرفة الخالق، ولم يعتبر تلك المعرفة غرضا لفلسفته، ولم يُدخلها في قوانينه الأخلاقية ولا في أنظمه السياسية، فكانت الأولوية عنده للعالم الحسي، وبيان أسبابه وعلله، من دون أن يفكر في القوة الخفية التي تدبر هذا الكون.
هذه المعضلة الأرسطية استمرت منذ اليونان إلى اللحظة الراهنة في الحداثة الغربية، وهو ما جعل كل مسألة ذات طبيعة ميتافيزيقية غيبية تستعصي على الحل في العقل الغربي، فالعقل الأرسطي اكتفى بذاته، وفصل الوجود عن الخالق، وهي رؤية تسللت وسرت في جنبات الحضارة الغربية واستوطنت مفاصلها، لذا يؤكد المفكر الفرنسي المسلم “كريستيان بونو”[2] في حواره أن مشكلة الغرب تكمن في خوائه الروحي، الناجم عن غياب الميتافيزيقيا[3]، فهذا هو الجذر الأساسي لفهم مشكلة الغرب، أما مشكلة الثقافات الأخرى فتكمن بالانبهار بثقافة الغرب خاصة في بعدها التكنولوجي، ظنا منها بحدوث تلازم بين التفوق التكنولوجي والعقل.
ولكن هل “ما بعد الغرب” هو عودة للشرق؟ يصر الفيلسوف الدكتور حسن حنفي على ضرورة طرح وإنتاج نسق معرفي يقود إلى عودة مسار الحضارة من الغرب إلى الشرق[4] مرة أخرى، فقد كان مسار الحضارت الشرقية يسير من تعدد الآلهة نحو التوحيد، ومن الشعائر والطقوس إلى الأخلاق والسياسة.
ويرى حنفي أن روح الشرق بفلسفاته المختلفة تسري في الغرب وفي عقول كثير من فلاسفته، غير أنه مع الحقبة الاستعمارية تحول الشرق في الذهنية الغربية إلى مادة لا روح فيها، فتكلست روح الشرق في الوعي الغربي وتحول الشرق إلى صورة صنعها الغرب نفسه، تبدو فيها المادة وتختفي فيها الروح، تحضر فيها الأسطورة ويغيب عنها العقل.
ويؤكد حنفي أن كثير من أزمات الغرب يتم العودة فيها إلى اكتشاف حلول من الشرق، ومن ثم فعودة مسار الحضارة من جديد إلى الشرق هو عودة للعمق التاريخي للحضارة الإنسانية، فتعود حضارة الشرق إلى المركز بدلا من الوعي الأوروبي الأقل عمقا في التاريخ، فالشرق هو بداية الوعي الإنساني، وهو الإنسانية في مرحلة الميلاد والنمو، عندما كانت بلا وعي ولا إرادة ولا عقل.
الصين بديلا عن الغرب
هل تُصلح الصين لقيادة حقبة ما بعد الغرب؟ يطرح بعض علماء المستقبليات أن عصر ما بعد العولمة هو عصر نهاية الهيمنة الغربية، ربما بسبب الأزمات التي تعيشها بعض القوى الغربية الرئيسية، وكذلك حالة الصعود الاقتصادي والسياسي الصيني، فالصين لا تزال غير راغبة في الإعلان عن نفسها كنموذج في التنمية أو كقوة عالمية كبرى، رغم مقاييس الأداء المذهلة في التنمية، لكن هذه الرؤية أخذت في التراجع مع ظهور تساؤلات صينية تطرح: ماذ بعد تلك التنمية؟ وكيف تتصرف الصين على المسرح العالمي باعتبارها دولة كبرى؟.
النموذج الصيني للتقدم والتنمية قام في كل المجالات على لاءات ثلاث أطلقها الزعيم “دنغ شاو بينغ” وهي:” لا تقلدوا الغرب، ولا تقلدوا الدول الاشتراكية، ولا تتخلوا أبدا عن مزاياكم”، وقد اتبعت الصين آليات لتعزيز سيادتها الثقافية، وتنمية قوتها منها:
– الاهتمام بأن يتوازي النموذج التقني والتطور الاقتصادي مع انتشار نموذجها الثقافي حتى تتمكن أن تكون بديلا للنموذج الثقافي الغربي، لذا دعمت أقسام اللغة والثقافة الصينية في العالم، من خلال “معهد كونشيوس” الذي تأسس عام 2018م، وتم تأسيس 548 معهدا بهذا الإسم في 154 دولة ومنطقة في العالم، يعمل فيها أكثر من 45 ألف مدرسا صينيا.
ولكن هل تؤسس الصين لدورة حضارية جديدة في ظل صعودها القيادي العالمي المتوقع؟
يطرح البعض رؤية مثالية في أن الصين تؤسس لتبني “نهج سلمي”[5] قائم على التعاون بين دول العالم وشعوبه، من خلال تبادل المصالح والمنافع في إطار من العدل، وقد أصدر المفكر الإلماني “أوليفر ستونكل” كتابه “ما بعد العالم الغربي” عام 2016، تحدث فيه عن تداعيات الديمرقراطية الرأسمالية وتهافتها، والتنافس الذي يواجهه النموذج الأمريكي من الصين، إذ يعتقد بعض العلماء الغربيين أن القوى الناشئة وعلى رأسها الصين سوف تسعى لتقويض المؤسسات الغربية وإضعاف القواعد والمعايير التي تقوم عليها، غير أن هذا الطرح هو نتاج تمحور الغرب حول ذاته دون الاعتراف بأدوار الآخرين، لذلك تتجه القوى الناشئة مثل الصين والهند والبرازيل إلى بناء مؤسسات بديلة وتضع هي قواعدها الحاكمة، لتتمتع فيها بنفوذ كبير عوضا عن خوض مواجهة مباشرة مع المؤسسات القائمة.
وتسعى القوى الناشئة إلى بناء نظام دولي متعدد الأقطاب تسري فيه القواعد على الجميع، في حين يرى آخرون أن الصين راضية عن النظام العالمي الحالي مادامت ستحل بكين مكان واشنطن في هذا النظام، لذا فالصين ستكسر القواعد وتخرق المباديء طالما وقفت في طريق مصالحها مثلما فعلت الولايات المتحدة، مادام الالتزام انتقائي.غير أن الصين ربما تتحرك في مجال ترتيب التسلل الهرمي في النظام لتحتل المكانة الأولى دون أن تسعى لتغيير قواعده ومؤسساته إلا في حال تعارضها مع المصالح الصينية
أما التعددية التنافسية في النظام الدولي “ما بعد الغرب” فالمحتمل أن يتجنب الخيار الصارخ المتمثل في: إما أن تمضي الدولة بمفردها أو تمضي مع الأمم المتحدة، بعد أن كانت القوى الغربية في وضع أفضل من غيرها في ترجيح كفة التعددية التنافسية لصالحها.
والواضح أن قدرة الغرب على استخدام المباديء والمؤسسات العالمية لصالحه يطيل أمد تأثير الغرب في التحكم في النظام العالمي مقارنة بالباقين الذين ليسوا وحدة متماسكة مقارنة بالغرب، كما أن الغرب يضع مجموعة من الاستراتيجيات للمحافظة على سيطرته على المؤسسات الدولية لعقود مقبلة، وأن تكون سلطة تلك المؤسسات تحت قبضته وفي حوزته، لذا تسعى القوى الناشئة إلى بناء توافقات من خلال إنشاء مؤسسات جديدة بعيدة عن الهيمنة الغربية.
[1] ربما طرح سؤال مماثل قبل عدة قرون هو “ما اليونان؟” عندما كانت الحضارة اليونانية هي المتسيدة في العالم
[2] فيلسوف فرنسي مسلم تسمى بـ”يحيى العلوي” أسلم وعمره 22 عاما، في 1979، واهتم بتفكيك ونقد بنية الحضارة الغربية المعاصرة معرفيا وفلسفيا وثقافيا، والاهتمام بالفكر الفلسفي الإسلامي، توفي في حادث في ساحل العاج في 29/8/2019 أثناء ذهابه لإلقاءه سلسلة محاضرات
[3] الميتافيزيقا أو الماورائيات أو ما وراء الطبيعة هو فرع من الفلسفة يدرس جوهر الأشياء. يشمل ذلك أسئلة الوجود والصيرورة والكينونة والواقع، وتستخدم بمعنى الغيبيات والإيمان بالغيب
[4] يبدأ مسار الحضارات في الشرق من الحضارة المصرية القديمة إلى حضارات الشام والعراق والصين والهند، وذلك قبل أن تبدأ الحضارة اليونانية القديمة التي هي المصدر الأول للوعي الأوروبي
[5] من النادر في التاريخ هذا الطرح المثالي للقوة الصاعدة التي تهيمن على العالم، فالطريق دائما مكتظ بالضحايا التي سحقتهم تلك القوة، وفي الحالة الصينية فيجب النظر إلى الانتهاكات المروعة التي ترتكبها ضد شعب الإيغور المسلم، والتي وصلت إلى اعتقال أكثر من مليون شخص داخل ظروف شديدة القسوة والامتهان والإذلال لتغيير هويتهم الإسلامية