هذا المدخل من فهم القرآن يعنى باتخاذ القرآن مرجعية فكرية وفلسفية لإنتاج العلوم والمعارف، أو تصميم التصورات الأساسية لهذه العلوم والمعارف سواء كانت علوماً دينية أو إنسانية.
والمشروع الإصلاحي الرائد في هذا الميدان هو مشروع “إسلامية المعرفة” الذى تأسس من أجله المعهد العالمي للفكر الإسلامي (1981)، ويسعى هذا المشروع إلى “إعادة تشكيل العلوم الحديثة ضمن الإطار الإسلامي ومبادئه وغاياته، حتى تستعيد الشخصية الإسلامية الرؤية الإسلامية والمنهجية الإسلامية وتسترد التربية الإسلامية صفاءها. وتتبين معالمها ومسالكها”.([1])
ويشغل القرآن المكانة الأساسية في مشروع “إسلامية المعرفة” وفي التنظير لها وتطويرها يذكر العلواني”…لكي نصل إلى هذه النتيجة التى نبدأ بها تعاملنا مع القرآن والسنة كان منطلقنا “أسلمة المعرفة” أو إسلاميتها، فقد قررنا سلفاً ضرورة أسلمة مناهج العلوم الطبيعية والإنسانية، ومن خلال القرآن نفسه، لنجعل منها مداخلنا إلى فهم القرآن وهي عملية مزدوجة ومتبادلة التأثير، فالقرآن يُقوِّم مناهج المعرفة من ناحية، ومناهج المعرفة المُقوَّمة تساعد على الدخول بشكل أعمق في عالم القرآن الرحيب من ناحية أخرى، وتعين على حسن فهمه”.([2])
ومما قدمه مشروع إسلامية المعرفية من طروحات حول تجديد النظرة إلى القرآن بهذا المعنى السابق ما طرحه تحت عنوان “الجمع بين القراءتين ” والتى أسس لها أبو القاسم حاج حمد في منهجية القرآن المعرفية والتي قسمها إلى ثلاثة مستويات هي التأليف,والتوحيد, والدمج([3]) ورغم ما تعرضت له هذه المقولة من انتقادات في تفصيلها-نظراً للغموض في بعض محتواها- إلا أن طه جابر العلواني تلقفها وطرحها في معين فكري آخر لتصبح أكثر قبولاً في وسط إسلامية المعرفة , وذلك بما أضفاها عليها من معنى أكثر قرباً مما عهده العقل الإصلاحي المعاصر في إجماله, ويفسر العلواني مقولة الجمع بين القراءتين “بقراءة الكون والنظر في الخلق، ومعرفة ما دونته البشرية من فهم له، وتجارب فيه بأقلامها؛ فهذه القراءة هي التى صاغ القرآن المجيد بحسبها دليل الخلق ودليل الإبداع، والتكيف بالنظر العقلي في الوجود، والنظر في آثار الأمم السابقة، ومعرفة ما حدث لها… وقراءة الوحي المنـزل على قلب – الرسول r))، فهما إذن كتابان تجب قراءتها معاً للخروج من إسار الأمية بكل إشكالها ومعانيها : كتاب منزل متلو معجز وهو القرآن، وكتاب مخلوق مفتوح وهو هذا الخلق والكون والتجارب البشرية منه، ومنه التعامل مع الإنسان نفسه، فهو جزء من الخلق وابن شرعي”. ([4])[مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى(55) ] {طه} .
عندما يدعو القرآن الكريم إلى السير في الأرض للنظر والبحث في بدء الخلق، فكأن الله سبحانه يربط قصة خلق الإنسان كما روتها الآيات القرآنية، بما قد يجده الإنسان في علوم الحياة وطبقات الأرض والمستحاثات وأمثاله
إن المدخل الأساسي للجمع بين القراءتين كما يشير العلواني: يبدأ باكتشاف العلاقة المنهجية بين الناظم المنهجي لآيات القرآن الذى أعطى القرآن “ووحدته البنائية” وإعجاز “نظمه”، وبين السنن والقوانين المبثوثة في الوجود والمهيمنة على حركية للكشف عن الناظم المنهجي الذى يربط بينهما. فالقرآن وحي إلهي نتعقل به ونتفهم به هذا الوجود انطلاقاً من أن القرآن مطلق، ومحيط وشامل.
وبقدر ما تتسع معرفتنا للاثنين معاً بقدر ما تكون لدنيا القدرة على “الجمع بين القراءتين” واكتشاف “التداخل المنهجي بين منهجي الوحي والكون، فمنهجية القرآن موازية لمنهجية الوجود، ولا ينبغي الاقتصار على قول ذلك نظرياً، ولكن ينبغي اكتشاف ذلك تطبيقياً…ولهذا يكون التحدي الأول والأهم للمسلم المعاصر هو الكشف عن التداخل المنهجي بالجمع بين القراءتين: أي بين الوحي الإلهي والعلوم الطبيعية والإنسانية القائمة على السنن الإلهية في الكون والحياة والإنسان.([5])
وانبثق أيضاً من مشروع “إسلامية المعرفة” الطرح الذي عرف بـ”التكامل المعرفي” وهو محاولة لتدشين وتنظير للرؤية الكونية التوحيدية التى يتبناها هذا المشروع في مقابل الرؤية الغربية.وهو ما سبق أن قدمه إسماعيل الفاروقي – في كتابه التوحيد([6]) حيث أورد ثلاثة عشرة مبدأ للرؤية التوحيدية هي : الخبرة الدينية، الإسلامية، التاريخ، المعرفة، ما وراء الطبيعة، الأخلاق، الأمة، الأسرة، النظام السياسي، النظام الاقتصادي، النظام العالمي، النظام الجمالي.
ويشير فتحي ملكاوي([7]) إلى: أن الرؤية الكونية الإسلامية توظف في تعاملها مع مسألة التكامل المعرفي مدخلاً توحيدياً فريداً. هذا المدخل التوحيدي هو مدخل قرآني خالص، يبدأ من وحدة الإله الخالق، ووحدة الكون المخلوق ووحدة الإنسان المستخلف، ووحدة العطاء الإلهي للإنسان بتعليمه الأسماء، ثم بتواصل الوحي الإلهي لهداية الإنسان بالكلمة المسطورة [يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(26) يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ(27) ]. {الأعراف}. 26 – 27) ويتواصل الوحي الإلهي أيضاً بالواقعة المشهودة [فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ(31)]. {المائدة}.
ويضيف ملكاوي أن المدخل التوحيدي يتضمن إقامة التقابل والتكامل والتداخل بين الوحي الإلهي في الكتابين المسطور والمنظور، الأمر الذى تتلاشى معه مشكلات التقابل بين العقل والنقل. كما يتضمن ذلك إقامة التكامل بين علوم الوحي كما يفهمها الإنسان وبين العلوم المكتسبة في مجال الكون الطبيعي والاجتماعي والنفسي، باعتبارها من ضرورات الاستخلاف والتمكين في الكون والعمران البشرى.وتتضح الرؤية الكونية التوحيدية من الربط الدائم بين المجالات المعرفية التى يتحدث عنها القرآن الكريم، إلى الحد الذى تكاد تختفي فيه الحدود الفاصلة بين هذه المجالات وتختفي معها – أيضاً – اهتمامات المسلم في حياته الفعلية، فالآيات القرآنية تصل الدنيا بالآخرة وعالم الغيب بعالم الشهادة وهكذا. لكن الأهم من ذلك هو بيان الوحدة والتكامل بين مصادر المعرفة وغاياتها. ولعل من أهم ما يبين ذلك استعمال لفظ (آية) في القرآن لتدل على العبارة المسطورة في المصحف وعلى الظاهرة الكونية المنظورة في المجال المادي أو الاجتماعي أو النفسي.
فعندما يدعو القرآن الكريم إلى السير في الأرض للنظر والبحث في بدء الخلق، فكأن الله سبحانه يربط قصة خلق الإنسان كما روتها الآيات القرآنية، بما قد يجده الإنسان في علوم الحياة وطبقات الأرض والمستحاثات وأمثالها.
وعندما يدعو إلى السير في الأرض والنظر في مصائر الأقوام والحضارات السابقة ليأخذ العظة الحاضرة فإنه يعنى أن الهداية التى يريد القرآن للإنسان أن يحصل عليها، مع أنها فضل من الله ورحمة، لكنه يمكن أن يستعين في اكتسابها بهذا الجهد المعرفي المتمثل بالسير والبحث في التاريخ والآثار والأديان المقارنة وعلم الاجتماع وغير ذلك. وبالمثل عندما يدعو القرآن الكريم الإنسان إلى رؤية آيات الله في الأفاق وفي الأنفس، أى علوم الكون وعلوم النفس، فإنه يبنى علاقة التكامل بين هذه العلوم وعلوم الوحي.
ومن الكتابات التي تناولت منهجية التعامل المعرفي نحو القرآن –أيضاً- عبد الحميد أحمد أبو سليمان في “الرؤية الكونية الحضارية” ومنى أبو الفضل في ” نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي”.
وما قدمه – أيضاً – محمد عبد الله دراز في فلسفة الأخلاق الإسلامية والتنظير لها من خلال القرآن في كتابه “دستور الأخلاق في القرآن” وصولاً إلى الاهتمام بمسألة المفاهيم والمصطلحات من المنظور المعرفي القرآني عند السيد عمر “خارطة المفاهيم القرآنية”، الشاهد البوشيخي “نحو معجم تاريخي للمصطلحات القرآنية”, ومحمد الغزالي في “كيف نتعامل مع القرآن؟” و القرضاوي تحت نفس العنوان .
وفي المدرسة الإمامية نجد تواصلاً للمدخل المعرفي في فهم القرآن والتعامل معه بدءاً من محمد باقر الصدر في “فلسفتنا” والذى يؤكد فيه “أن الوعي السياسي للإسلام ليس وعياً للناحية الشكلية من الحياة الاجتماعية فحسب، بل هو وعي سياسي عميق، مرره على نظرة كلية كاملة نحو الحياة والكون والإجماع والسياسة والاقتصاد والأخلاق فهذه النظرة الشاملة هو الوعي الإسلامي الكامل([8]),و”أن المستفاد من الإسلام بالصميم إنما هو الطريقة والمفهوم، أي الطريقة العقلية في التفكير والمفهوم الإلهي للعالم.([9])
كما حاول نجف على ميرزائي في دراسته “فلسفة مرجعية القرآن المعرفية في إنتاج المعرفة الدينية” تقديم طرح نظري يعنى “بالدور المرجعي للقرآن ووظيفته المتعددة الأبعاد في هندسة “بناء المعرفة الدينية” محاولاً استجماع لآراء كثير من المفكرين المعاصرين في هذا الصدد مثل :وهبة الزحيلي، وجمال الدين عطية، والعلواني ومحمد مهدي شمس الدين، وباقر الصدر، والطباطبائي وغيرهم من الأعلام.
وقد دارت هذه الدراسة حول ثلاثة مقولات أساسية، الأولى: القرآن الكريم هو القانون الأساسي لعملية إنتاج المعرفة الدينية، المقولة الثانية : المرجعية القرآنية في صياغة الاستراتيجيات المعرفية والتنظير الحضاري، المقولة الثالثة: العودة إلى القرآن بوصفة مرجعية لإنقاذ الأمة.
الإضافات المنهجية لمدخل المرجعية المعرفية
– التوعية الفكرية بالمرجعية المعرفية للقرآن ودوره في تأسيس فلسفات إنتاج العلوم والمعارف، في مواجهة النظرة الوضعية للعلم التي ألبستها التجربة الغربية للمعرفة العلمية الإنسانية .
– تأسيس الاتجاه التأصيلي للعلوم والمعارف الإنسانية المستندة إلى المرجعية القرآنية في أنحاء متعددة من العالم الإسلامي ، مثل ماليزيا، إيران ، باكستان، السودان .
– إنشاء مؤسسات تقوم على إنتاج المعارف والعلوم ذات مرجعية قرآنية، وإعداد قاعدة من الباحثين المسلمين في هذا المجال مثل: المعهد العالمي للفكر الإسلامي الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا, والجامعة الإسلامية العالمية في باكستان ، وجامعة الإمام محمد بن سعود, ومركز بحوث الحوزة والجامعة في إيران، وإدارة التأصيل ومعهد إسلام المعرفة في السودان ومركز بحوث الحوزة والجامعة في إيران .
– تدشين وانجاز تراكم بحثي وأكاديمي في مجال ” المنهجية المعرفية للوحي“عبر الندوات والمؤتمرات والرسائل والدوريات والكتابات المتعددة والمتنوعة في مختلف فروع المعرفة الإنسانية .
([1]) المعهد العالمي للفكر الإسلامي. الوجيز في إسلامية المعرفة.سلسلة إسلامية المعرفة(3), فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1987، ص26 .5>
([2]) العلواني, طه جابر . (تقديم) في : نادية محمود مصطفى (المشرف ورئيس الفريق) : مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، الجزء الأول المقدمة العامة للمشروع. فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996، ص40.5>
([3])أبو القاسم حاج حمد, محمد. منهجية القرآن المعرفية أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية , بيروت , دار الهادى ,ط2, 2008, ص 179.5>
([4])العلواني, طه جابر. الجمع بين القراءتين قراءة الوحي وقراءة الكون. القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2008، ص19– 20.5>
([5])المرجع السابق، ص54.5>
([6])الفاروقي, إسماعيل. التوحيد مضامينه على الفكر والحياة, ترجمة: السيد عمر , غير منشور .5>
([7])ملكاوي, فتحي حسن. “مفاهيم التكامل المعرفي”. في: مؤتمر التكامل المعرفي ودوره في تمكين التعليم الجامعي من الإسهام في جهود النهوض الحضاري في العالم الإسلامي، تلمسان – الجزائر، 2010، حـ2، ص492 .5>
([8])الصدر, محمد باقر. فلسفتنا. بيروت: دار التعارف للمطبوعات، 1998، ص45.5>
([9]) المرجع السابق، ص47.5>