عن جابر – رضي الله عنه – قال خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ، ثم احتلم ، فسأل أصحابه فقال : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبي ﷺ أُخبر بذلك فقال : قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة ، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده . سنن أبي داود .
إن دعاء النبي الكريم – عليه الصلاة والسلام – على هؤلاء القوم الذين قتلوا صاحبهم بسبب رأي ارتأوه واجتهاد مالوا إليه دون علم ولا أهلية للإفتاء ، مع كونهم صحابة مؤمنين موحدين ، ومع حسن نيتهم وصفاء قلوبهم ، يعطى دلالة واضحة على ذم الجهل – لاسيما في الدين – والجهلاء ، والتشنيع على من يفتي بلا بصيرة ولا دراية بالعلم الشرعي ومآلات الأمور والأفعال ، و قبح شأن من اجتهد في دين الله وهو ليس بأهل للاجتهاد ، والتعنيف على من تصدر لمثل هذه المواقف من غير روية ولا قاعدة معرفية .
كم من فتوى – لا سيما السياسية منها – صدرت من غير أهلها ومن غير المختصين بها ، فأزهقت أرواحأ وأوردت أناسا المهالك و ألقتهم في غيابات السجون ، وكم من اجتهاد بادر إليه سفهاء أغرار حمقى ، فاستباح الأعراض وأهدر الكرامات واستهان بالحقوق وقتل إنسانية الإنسان ودمر منظومة العلاقات الاجتماعية .
فكيف إذا جمع صاحب الفتوى إلى جهله وسفاهته ، خبث الطوية و سوء السريرة وتعمد الظلم والقصد للإيذاء ؟! ويل له ثم ويل !
كم من فتوى صدرت من غير أهلها ومن غير المختصين بها ، فأزهقت أرواحأ وأوردت أناسا المهالك و ألقتهم في غيابات السجون
لقد جاءت الرسالات السماوية وأنزلت الكتب الإلهية وشرعت الأحكام وسنت القوانين والحقوق ، للحفاظ على دين الإنسان وحياته وعقله ونسله وماله – وهي ما تسمى في شرعنا الحكيم بالكليات الخمس- ، فعليها يدور فلك التنزيل والمنهج القويم ، فكيف تستباح هذه الكليات أو بعضها ويسلب الإنسان ضروريات وجوده ، لهوى سياسي أو شهوة حاكم ونزعة متنفذ ، أو لتعصب حزبي فئوي طائفي ، وُيتكؤ في هذا على فتوى طائش أرعن أخرق ؟!
إن الجهل والبلاهة هما اللذان ساقا أراعن الناس وشرارهم وسقطهم من الأعراب إلى المدينة ، خارجين على الشرعية و الشريعة ، منقلبين على كل القيم والمثل والقوانين والأعراف ، مستبيحين دم الصحابي الجليل عثمان بن العفان رضي الله عنه خليفة المسلمين ، حتى قتلوه وهو صائم وأمامه المصحف يقرأ فيه !.
وسفاحة الأحلام وخفة العقول هما اللذان دفعا الخوارج الحمقى إلى قتل الصحابي الجليل علي بن أبي طالب – رضي الله عنه وأرضاه – خليفة المسلمين ، واستباحة دمه ودماء كبار الصحابة و المخالفين لهم من أهل القبلة . علما أن بعض هؤلاء القوم كانوا صوّاما قوّاما زهّادا ! لكنهم عبدوا الله على غير بصيرة ونور وعلى خلاف سنن الرشاد . فباؤوا بالخسران المبين .
لقد كان الغباء وانعدام الوعي أو قلته والغياب عن الواقع في كثير من الأحيان – إن لم يكن في أغلبها – ، أشد فتكا في هذه الأمة عبر التاريخ من أعدائها الظاهرين وخصومها المعاندين ، ومعول هدم لحضارتها وقيمها ، ومصدر اضطراب لصفها الداخلي وبنيتها المتماسكة . فمتى يتنبه المسلمون لهذا الشر المستطير والعدو القتال المسمى الجهل ؟! ومتى يقدّرون قيمة العلم والمعرفة والوعي والتخصص ؟!
وقد يكون من أسوأ أنواع الجهل و أفتكها : العمى والعمه عن سنن الله في الكون والأنفس والاجتماع ، وعن نواميسه الحاسمة في الطبيعة ، وقوانين القوة و النصر والتسخير ، التي تؤهل الأمة لأن تكون في الطليعة والمقدمة ، آخذة بزمام الأمور في قيادة الأمم في شتى المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية ..
كما أن من أسوأ أنواعه ، الغياب عن تاريخنا العظيم والجهل بموروثنا الحضاري الهائل ، وعدم تقديره والاعتناء به والانصراف عنه .
ولا يقل عن هذا الأخير سوءً وشراَ : الجمود على المألوف والموروث ، وقتل التطوير والتغيير وروح المبادرة لدى النشء وعموم المفكرين والمصلحين والمجددين ، وإيقاف محاولات الإبداع والابتكار في شؤون الحياة بشتى جوانبها ، ما يقتل الطاقات والعقول والمهارات والاختصاصات ، ويوقف التقدم والمضي نحو الأفضل ، و يجعل الأمة في ذيل القافلة وفي المؤخرة دوما .
قد يكون من أسوأ أنواع الجهل و أفتكها : العمى والعمه عن سنن الله في الكون والأنفس والاجتماع ، وعن نواميسه الحاسمة في الطبيعة ، وقوانين القوة و النصر والتسخير
والعجيب أن تجد من يفتي بشرعية ذلك – أقصد الجمود – ويشرعنه ، مستندا على نصوص يجتزئها وأقوال يزيفها ، ما يزيد الأمة جهلا إلى جهلها ، ويدخلها في نفق مظلم .
يقول مالك بن نبي – رحمه الله – ” ألا قاتل الله الجهل الذي يلبسه أصحابه ثوب العلم ، فإن هذا النوع من العلم أخطر على المجتمع من جهل العوام ، لأن جهل العوام بين ظاهر يسهل علاجه ، أما الأول فهو متخف في غرور المتعلمين “ . شروط النهضة .