يعتبر كتاب (أخلاق الطبيب) أول كتاب عربي يحاول وضع ميثاق شرف مهني للأطباء، والكتاب في أصله رسالة بعث بها الإمام الرازي (ت: 313) إلى أحد تلامذته (لم يسم تلميذه) بعد تعيينه طبيبا خاصا لأمير من أمراء عصره.
والرازي أحد أبرز الفلاسفة والعلماء الموسوعيين في القرن الرابع، امتاز بعمق استيعابه لما اهتم به من معارف وعلوم، ويدل على قوة استيعابه وذكاء قريحته أنه لم يشتغل بدراسة الطب إلا بعد أن تجاوز الثلاثين من عمره؛ ومع ذلك وصل فيه إلى درجة أن لقب بـ”أبو الطب العربي”، وقد شهد له بالتفوق أعلام الطب من أمثال: ابن سينا وابن رشد وابن ميمون.
وقد كان مهتما بالجانب الأخلاقي في الطب، ومن ذلك رسالته (أخلاق الطبيب) التي هي موضوع هذا المقال، وقد عرض فيها لكثير من الأخلاقيات الطبية التي يرى كثير من غير الدارسين النابهين أنها من صنيع العقل الطبي الغربي، مع أن عالم الكيمياء الإنجليزي ستابلتون أعلن بعد دراسته لكيمياء الرازي أنه بقي بلا ند حتى بزوغ فجر العلم الحديث بأوروبا.
وأول ما ينبه إليه الرازي في رسالته هو العقد الأخلاقي القائم بين الطبيب ومرضاه الذي يعتادونه، “فقد أحسن الظن بك من اختصك لنفسه واعتمد عليك من جعلك أمين روحه”، فهو ينبه الطبيب على أن يقابل ثقة المريض فيه بمسؤولية تحتسب ذلك في تعاملها معه.
ومن الأخلاقيات التي يدعو الرازي الأطباء إلى التزامها مواكبة التطور والاكتشاف في مجالات تخصصهم، من خلال مواصلة الدراسة والاطلاع على مستجدات الأدواء والأدوية والأوبئة، وهو ما تفرضه المستشفيات المعاصرة على الأطباء المشتغلين به في شكل إلزامهم بحضور مؤتمرات سنوية في مجالات تخصصهم والمشاركة في بحوث وتقديم مشاركات علمية تخدم المجال، يقول الرازي في هذه المسألة: “فأول ما يجب عليك صيانة النفس عن الاشتغال باللهو والطرب، والمواظبة على تصفح الكتب”.
ويحرص الرازي على تنبيه الأطباء على أهمية الرفق وحفظ أسرار مرضاهم، لأنهم يكاشفونهم بما لا يكاشفون به أخص الناس بهم، “واعلم يا بني أنه ينبغي للطبيب أن يكون رفيقا بالناس، حافظا لغيبهم، كتوما لأسرارهم، لا سيما أسرار مخدومه، فإنه ربما يكون ببعض الناس من المرض ما يكتمه من أخص الناس به، مثل: أبيه وأمه وولد، وإنما يكتمونه خواصهم، ويفشونه إلى الطبيب ضرورة”.
ويؤكد على ضرورة حفظ الطبيب لبصره عن عورات النساء، وأن الميثاق المهني يقتضي أن لا يطلق بصره متتبعا جمالهن، فإن ذلك إخلال بأخلاقيات المهنة الطبية، كما أنه يرجع على الطبيب الذي يفعله بسوء السمعة وكساد السوق، ويستحسن ما قاله جالينوس من أنه”على الطبيب أن يكون مخلصا لله، وأن يغض طرفه عن النسوة ذوات الحسن والجمال، وأن يتجنب لمس شيء من أبدانهن، وإذا أراد علاجهن أن يقصد إلى الموضع الذي فيه معنى علاجه، ويترك إجالة عينيه إلى سائر بدنها “.
ويبدو أن هذه الظاهرة كانت موجودة بين بعض الأطباء في زمانه فقد حكى أنه رأى “من تعاطى النساء فكثرت قالة الناس فيه، فتجنبوه، ورفضوه، وحرم الدخول على الملوك وعلى الخاصة والعامة”.
ولا يهمل الرازي الحديث عن واجب الناس نحو الطبيب، وما يلزمهم من إكبار مقامه ورفع منزلته، وتطييب نفسه بالكلام اللطيف الحسن، لأنه يقوم على صحتهم وإسعادهم، لأن “المتطبب خادم روح”، ولأن تكريم الطبيب يدفعه إلى الإبداع والتميز في مهنته المهمة والخطرة في الوقت نفسه، ذلك بأن “المخدوم إذا أحسن إلى من يختصه من المتطببين جد ذلك المتطبب، في حفظ صحته ومداراة علته”.
ومن حق الطبيب على المريض أن يكاشفه بعلته، فإن كتمان المريض لبعض علته عن طبيبه خطر كبير على حياته، كما أنه من قواعد الصحة لدى الرازي اعتماد طبيب واحد، لأنه بذلك يكون أعرف لحال مريضه وطبيعة بدنه وأسباب علته.
و نبه إلى خطر وصف المريض الدواء لنفسه بناء على حالة مريض تشبه علتُه علتَه، لأن طباع الأبدان وخصائصها تختلف من شخص إلى شخص، فيحتاج إلى نزع بعض مكونات دواء لنفس العلة أو زيادة مكونات أخرى.
وقد روى في ذلك قصة طريفة، قال: “ورأيت مرة رجلا أصابته علة؛ فأمر له بدواء يستعمله على مر الأيام، فكان لعلته شافيا، فأصابت العلة عينها رجلا آخر، فعلمه الرجل الأول ذلك الدواء، وكان الرجل الثاني يعتريه صرع، فكان كلما تناول منه يصرع عقبه، غير أنه كان ينفع العلة التي أصابته، فجاءني وشكا إلي فاستوصفته الدواء، فوصفه لي، فكان فيه بذر الكرفس، فألقيته منه، فاستعمله بعد ذلك؛ فكان لا يصرع وينفعه نفعا بينا”.
ومن الأخلاقيات التي لا تليق بالطبيب –مما انتبه له الرازي في كتابه- تكبره على العامة والفقراء إذا وجد بغيته المالية في الخاصة والأغنياء، قال: “ينبغي للطبيب أن يعالج الفقراء كما يعالج الأغنياء، ذلك أن من المتطببين من يتكبر على الناس، لا سيما إذا اختصه ملك أو رئيس”.
وكما على الطبيب أن لا يتكبر على الناس فعليه أن لا يعجب بما يحقق في مجاله من تميز بما يجريه الله على يديه من علاج الأمراض المستعصية، فإن “من المتطببين من غذا عالج مريضا شديد المرض فبرأ على يديه، دخله عند ذاك عجب، وكان كلامه كلام الجبارين، فغذا كان كذلك، فلا كان ولا وفق، ولا سدد”.
وقد تحدث الرازي عن المعاينة السريرية والحجز الطبي وأهميته خاصة بعد إعطاء نوع العلاجات يحتاج مفعوله إلى مراقبة مستمرة، وهو في نظره “المسهِّل” و”المقيِّئ”، قال: “وإذا أسقيته المسهل والمقيء، فينبغي لك أن تلازمه، لئلا يخطء في الطعام والشراب”.
تلك بعض الأخلاقيات والتوجيهات الطبية التي نبه إليها الإمام الرازي في كتابه (أخلاق الطبيب)، وهو كتاب على صغر حجمه غزير الفائدة جليل النفع، وليت أطباءنا أعادوا قراءته بطريقة معاصرة، تمكنهم من إدخال بعض الأخلاقيات المهمة لهذه المهنة الجليلة، والتي يشوهها كثير من المنتسبين إليها.