لما كان الدعاء في الإسلام عبادة خالصة وطاعة وقربى، أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتوجه إليه في جميع أمورهم بالدعاء والاستكانة والافتقار إليه لينالوا عنده منزلة رفيعة وزلفى، فقال الله سبحانه في مواضع من القرآن الحكيم ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، وقال: ﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ [الفرقان: 77] ، وقال أيضاً: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 180]، وجاء في صحيح الحديث أن الدعاء هو العبادة[1] ، والمقصود به أن الدعاء هو معظم العبادة، أو أفضل العبادة، لان في الدعاء تحقيق الغاية العظمى من العبادة، قال ابن مسعود: لكل شيء ثمرة، وثمرة الصلاة الدعاء. وقال أيضا: لا يسمع الله دعاء مسمع، ولا مراء، ولا لاعب.
ولعل أقرب الاحتمالات لهذا الحديث (الدعاء هو العبادة)، أن الدعاء في اللغة هو الطلب، حيث إن الداعي يتوجه إلى مولاه ومقصوده، فيسأله إجابة سؤاله ومطلوبه، فتارة يكون الدعاء بالسؤال من الله عز وجل والابتهال إليه كقول الداعي: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، وتارة يكون بالإتيان بالأسباب التي تقتضي حصول المطالب وهو الاشتغال بطاعة الله وذكره وما يجب من عبده أن يفعله وهذا هو حقيقة الإيمان، ومن هنا يظهر معنى الدعاء الذي أطلق على العبادة[2].
وقال الطيبي: معنى حديث النعمان أن تحمل العبادة على المعنى اللغوي إذ الدعاء هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له وما شرعت العبادات إلا للخضوع للباري وإظهار الافتقار إليه ولهذا ختم الآية بقوله تعالى ان الذين يستكبرون عن عبادتي حيث عبر عن عدم التذلل والخضوع بالاستكبار ووضع عبادتي موضع دعائي وجعل جزاء ذلك الاستكبار الصغار والهوان[3].
وقال الشيخ أبو القاسم القشيري في شرح الأسماء الحسنى ما ملخصه:
جاء الدعاء في القرآن على وجوه:
منها العبادة، ﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: 106].
ومنها الاستغاثة يقول الله تعالى: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 23].
ومنها السؤال، ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60].
ومنها القول، قال الله تعالى: ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾ [يونس: 10].
ومنها النداء، ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 52].
ومنها الثناء ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الإسراء: 110][4].
وهذه الأوجه السابقة التي صرف إليها لفظ الدعاء فإننا نجدها في الغالب ترجع إلى أصل اللغة وهو الطلب لحصول مرغوب أو دفع مكروب. كما أن هذه الأوجه كذلك تشير بطريقة أو أخرى إلى فضائل الدعاء.
يضاف إلى ذلك أنه ثبتت أحاديث في فضائل الدعاء منها:
– أن الدعاء من الأمور التي لازم عليها النبي ﷺ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ﷺ يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك. رواه أبو داود بإسناد جيد.
– من الأدعية العامة الجامعة ما رواه أنس رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء النبي ﷺ اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار متفق عليه.
زاد مسلم في روايته قال: وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه.
– أن دعوة المسلم مستجابة لا يردها شيء، إذا صبر وداوم ولم ينقطع، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: “لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء. رواه مسلم.
شروط قبول الدعاء
نلاحظ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن قبول الدعاء مربوط بشروط أشار إليها النبي ﷺ، وشرح ذلك العلماء مع البسط المناسب.
ومن أعظم وأهم شروط الدعاء ما يأتي:
الأول: الإخلاص، قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14].
الثاني: المتابعة لرسول الله ﷺ، قال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].
الثالث: الثقة بالله واليقين بالإجابة، ومما يزيد ثقة المسلم بربه تعالى أن يعلم أن جميع خزائن الخيرات، والبركات عند الله تعالى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة».
الرابع: حضور القلب، والخشوع والرغبة فيما عند الله من الثواب والرهبة مما عنده من العقاب، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
الخامس: العزم والجزم، والجد في الدعاء، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا دعا أحدكم فليعزم في الدعاء، ولا يقل اللهم إن شئت فأعطني؛ فإن الله لا مستكره له»[5].
موانع إجابة الدعاء
الأول: أكل الحرام وشربه ولبسه: كما ورد في الحديث: «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب! ومطعمه حرامٌ، ومشربه حرامٌ وغُذي بالحرام فأني يستجاب لذلك» رواه مسلم.
الثاني: الاستعجال وترك الدعاء: فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول قد دعوت فلم يستجب لي» رواه البخاري ومسلم.
الثالث: ارتكاب المعاصي والمحرمات، ومن ذلك حديث الرجل الذي يدعو وهو يتغذى بالحرام قال النبي ﷺ: فأنى يستجاب له؟!
الرابع: ترك الواجبات التي أمر الله بها وأوجبها: فعن حذيفة ضي الله عنه، أن النبي – ﷺ – قال: «والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أني يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم».
الخامس: الدعاء بإثم أو قطيعة رحم
رد القضاء بالدعاء
فإذا كان الدعاء بهذا المكان وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة النبوية تدعو إلى التزام هذا الهدي والعمل به، فقد يعارض هذا ما جاء في فضل الدعاء أنه يرد القضاء المقدر يقول النبي ﷺ: (لا يرد القضاء إلا الدعاء)، فكيف يمكن فهم هذا النص.
اختلفت مذاهب العلماء في بيان الحديث السابق بين من يبطل مفعول الدعاء إذا نزل القدر، وبين من يوجب دفع القدر المقدر بالدعاء، ولعل الراجح التفصيل.
قال الخطابي: الدعاء واجب، إلا أنه لا يستجاب منه إلا ما وافق القضاء”. وهذا المذهب هو الصحيح، وهو قول أهل السنة والجماعة، وفيه الجمع بين الأخبار المروية على اختلافها والتوفيق بينها.
وجاء في صحيح مسلم قوله: (يا محمد إني إذا قضيت قضاء لا يرد) الحديث، قال القرطبي في المفهم: يستفاد منه: أنه لا يستجاب من الدعاء إلا ما وافقه القضاء، وحينئذ يشكل بما قد روي عنه ﷺ أنه قال: لا يرد القضاء إلا الدعاء.
ويرتفع الإشكال بأن يقال: إن القضاء الذي لا يرده دعاء ولا غيره، هو الذي سبق علم الله بأنه لا بد من وقوعه. والقضاء الذي يرده الدعاء أو صلة الرحم، هو الذي أظهره الله بالكتابة في اللوح المحفوظ، الذي قال الله تعالى فيه: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}[6].
– وقال التوربشتي في شرح مصابيح السنة: والذي يهتدى إليه من تأويل هذا الحديث وجهان: أحدهما أن نقول: أراد بالقضاء ما يخافه العبد من نزول المكروه، ويتوقاه، فإذا وفق العبد للدعاء دفع الله عنه ذلك، ويكون تسميته بالقضاء على المجاز والاتساع على حسب ما يعتقده المتوقى عنه، ويزيد هذا المعنى وضوحا حديث أبي خزامة عن أبيه: يا رسول الله! أرأيت رقى نسترقيها، وتقاة نتقيها، ودواء نتداوى به، أيرد ذلك من قدر الله شيئا؟ قال: (هي من قدر الله).
ثم إنا نقول: كما لم يحسن منهم ترك التداوي مع إيمانهم بالقدر – لم يجز لهم ترك الدعاء وقد أمر الله به، مع علمهم بأن المقدور كائن؛ لأن حقيقة المقدور وجودا وعدما مخفية عنهم.
والآخر أن نقول: إن كان المراد من القضاء الحقيقة فالمراد من الرد تهوينه وتيسير الأمر فيه؛ حتى يكون القضاء النازل كأنه لم ينزل[7].
[1] أخرجه أصحاب السنن الأربعة وقال الترمذي: حسن صحيح، من حديث النعمان بن بشير
[2] فتح الباري لابن رجب (1/20).
[3] «فتح الباري لابن حجر» (11/ 95).
[4] فتح الباري لابن حجر (11/94).
[5] كتاب الدعاء، سعيد بن علي القحطاني، وكتاب «جامع العلوم والحكم» (ص832 ت الفحل).
[6] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (7/219).
[7] الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي (2/ 515).