يحصل العجز في الميزانية العمومية للدولة عندما يكون جانب النفقات فيها أكبر من جانب الإيرادات، وهي مشكلة تعاني منها معظم بلدان العالم الثالث التي لا زالت تئن تحت وطأة الاستبداد وسوء التسيير وانعدام الحكم الرشيد، لكن ذلك لا يعني أن الدول المتقدمة في منأى عن هذه المشكلة.

 

الولايات المتحدة الأمريكية تعرضت لعجز في ميزانيتها بمقدار 158 مليار دولار سنة 2002 على إثر أحداث 11 سبتمبر، كما تعرضت له الكثير من الدول المتقدمة في مناسبات عديدة منها الأزمة المالية العالمية 2008. فالعجز في الميزانية لا يعني بالضرورة ضعف الاقتصاد.

وينتج عجز الميزانية بسبب زيادة نمو الإنفاق العام أو تباطؤ نمو الإيرادات العامة أو هما معا. وتعتبر الأزمات الاقتصادية والحروب والكوارث الطبيعية والاضطرابات السياسية والاجتماعية من أسباب الزيادة الطارئة في الإنفاق؛ فقد ينكمش الاقتصاد وتضطر الدولة لزيادة الإنفاق، وقد تمر الدولة بظروف طارئة تفرض عليها شراء أسلحة أو دعم بعض الطبقات الاجتماعية، كما قد تقرر الاستثمار في بعض المشاريع…كذلك فإن الإيرادات قد تتعرض هي الأخرى للنقص بسبب التهرب الضريبي أو تخفيف الدولة للضرائب، كما أن تراجع أسعار بعض المعادن كالبترول مثلا قد تسبب تراجع الإيرادات المفاجئ لبعض الدول النفطية… وبالإضافة إلى هذا وذاك يبقى الفساد والاستبداد والإسراف وتبديد موارد الدولة وانعدام الشفافية من أهم أسباب العجز المزمن في ميزانيات الكثير من الدول.

وفي سبيل سد العجز في الميزانية قد تلجأ الدول للسحب من احتياطياتها أو لزيادة الضرائب أو سك نقود جديدة، كما قد تلجأ لتقليص النفقات كأن تخفض الأجور والمرتبات أو ترفع الدعم عن بعض السلع والخدمات الاجتماعية… ونظرا لتعذر اللجوء لهذه الخيارات – في بعض الأحيان- أو للآثار المترتبة على ذلك فإن بعض الدول  قد تلجأ للاستدانة من الخارج أو الداخل لسد العجز في الميزانية. وسأركز في هذا المقال على الخيار الأخير مبينا ما له وما عليه.

أولا: الاستدانة من الداخل

لسد العجز في الميزانية تلجأ بعض الدول للاستدانة من الداخل، وذلك من خلال وسائل أشهرها اللجوء لبيع السندات الحكومية وأذونات الخزينة للأفراد والمؤسسات المالية، وتتميز هذه الطريقة بأنها غير تضخمية، فلا تترتب عنها زيادة في عرض النقود، ولا يخلو هذا الخيار من وجاهة، خاصة في حالة العجز المؤقت في الميزانية.

وفي الدول التي تتمتع بالثقة والملاءة المالية الكافية لإقبال الأفراد والمؤسسات على إقراضها. ومن المهم في هذه الحالة وجود سوق مالية نشطة لتداول أدوات الدين هذه. كما أن هذه الأموال يجب ألا تصرف بشكل كامل في الإنفاق الاستهلاكي، وإنما يلزم صرفها أو صرف جزء كبير منها في تمويل مشاريع استثمارية تدر إيرادات واضحة يمكن الاعتماد عليها في سداد خدمة الدين المترتب عن هذه الاستدانة على أقل تقدير.

أما علاج عجز الميزانية الهيكلي بالاعتماد كليا على الاستدانة من الداخل، فقد يعمق المشكلة في المستقبل ويزيد من صعوبة حلها، لأن أقساط هذا الدين وفوائده ستزيد – دون شك- من تفاقم العجز في الميزانية في السنوات المقبلة، والرجوع لنفس الدوامة، خاصة إذا ما تم صرف هذه القروض في الإنفاق الاستهلاكي كما أسلفنا. من جهة أخرى فإن اللجوء للمدخرات الداخلية لتمويل العجز في الميزانية سيزاحم المستثمرين في القطاع الخاص، مما ستترتب عليه زيادة سعر الفائدة على الإقراض، وما سيرافق ذلك من انكماش وتراجع في عملية النمو.

ثانيا: الاستدانة من الخارج

في حالة عجز المدخرات الوطنية عن سد العجز في الميزانية قد تلجأ الدول للأسواق الخارجية أو المؤسسات الدولية لسد هذا العجز.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الاستدانة من الخارج ليست مشكلة – في حد ذاتها- إذا كانت طبيعة العجز وظروف الاقتصاد تسمح، وإنما المشكلة في أوجه صرف هذه الديون؛ فإذا كان العجز ناتجا عن تفاقم مشكلة الدين فمن غير المنطقي أن يتم العلاج بالاستدانة مرة أخرى، لأن الأقساط والفوائد الجديدة ستزيد العبء على الميزانيات المقبلة وقد تؤدي لتحول العجز فيها من عجز يمكن التغلب عليه إلى عجز مزمن.

وتقل جدوائية الدين أيضا في حل مشكلة عجز الميزانية الناتج عن نمو بند الأجور والمرتبات في الميزانية وكذا بند الدعم الاجتماعي؛ فالإنفاق الاستهلاكي في ظل جمود القطاع الإنتاجي سيؤدي لزيادة الطلب الكلي وبالتالي التضخم، وهو ما سيزيد جانب الإنفاق بالميزانية بسبب زيادة أسعار السلع والخدمات والمواد الأولية وبالتالي تفاقم المشكلة.

كما أن عجز الميزانية الناتج عن الفساد والتبذير وسوء التدبير لا يمكن علاجه بالاستدانة. أما الاستدانة لتمويل مشاريع تنموية مهمة وتوفير فرص عمل أو بناء مصانع ذات مردود واضح على الاقتصاد الوطني فقد تكون إيجابية لأنها ستدر إيرادات جديدة، ومشكلة العجز ناتجة – في الأصل-عن عجز الإيرادات عن تغطية النفقات.

وخلاصة القول أن الدول التي تتعرض للعجز في الميزانية عليها أولا أن تحدد سبب هذا العجز وتعالجه بعلاج يتناسب معه، من خلال دراسة كل الخيارات المتاحة، من زيادة الضرائب وسك العملة وتخفيض النفقات والاستدانة وغيرها، وتطبيق الخيار الذي يناسب نوع وسبب العجز.

وإذا وقع الاختيار على الاقتراض من الداخل أو الخارج، فيجب ألا يتجاوز مؤشر إجمالي الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي نسبة 50% التي حددها البنك الدولي كعتبة للحرج.

كذلك يجب أن تظل نسبة خدمة الدين إلى الصادرات من السلع والخدمات في حدود معقولة لأن الصادرات من أهم موارد العملة الصعبة التي سيتم تسديد أقساط الدين منها. من الضروري كذلك أن تستخدم تلك الأموال في الإنتاج بدلا من أن تستخدم في الاستهلاك والهدر.

فالقروض يجب أن توجه لتوسيع مشاريع قائمة أو بناء مشاريع جديدة مدرة للدخل تولد إيرادات فعلية تمكن الدولة – على الأقل- من سداد خدمة القرض و توفير فرص عمل وإنعاش الاقتصاد. كذلك فإنه على الدول التي تعتمد في مواردها على مصدر واحد – كالنفط مثلا- أن تنوع من مصادر دخلها من خلال الاستثمار في مختلف القطاعات لأن تراجع أسعار النفط  قد يؤدي للعجز في الميزانية، وما يترتب عليه من آثار.