هوية الإنسان وإشكالية الظرف الزمني لوجود الروح والجسد: في عالم الفلسفة الإسلامية، تظل إشكالية هوية الإنسان محور نقاشات مكثفة، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين الروح والجسد. يتناول هذا المقال بعمق هذه الإشكالية، مستعرضاً الآراء المختلفة للمفكرين المسلمين مثل ابن حزم وابن تيمية حول الترادف بين النفس والروح والجسد. يتخذ الشهيد كنموذج لفهم هذا الترابط والتوزيع الاصطلاحي لهذه المصطلحات في النصوص الشرعية.

أولاً: حقيقة وصف الإنسان بين الحياة والموت

الإشكال المطروح عند وصف الإنسان باعتباره جسداً على مستوى الترادف هو: هل هذا الجسد استحق أن يسمى إنساناً قبل وجود النفس أم بعد وجودها؟ عندما نقرأ في القرآن الكريم وصف الإنسان بأنه قد كان علقة، نجد أنها ليست الإنسان بهذا الاعتبار، ولكنه سيكون هو النتيجة الآتية والمتطورة عن العلقة بعد اكتمال الخلقة بالتسوية ونفخ الروح. نفس المسألة تنطبق عندما نقول لجثة الميت بأنها إنسان، إذ أن إنسانية الجثة قد اكتسبتها عندما كان الروح مرتبطاً بها وكان الإنسان حينئذ كائناً متحركاً واعياً ومدركاً عاقلاً. بعد الموت، يبقى وصف الإنسان عالقاً بالجثة لارتباطها الصوري الجزئي بكينونتها الأصلية وهي الإنسان العاقل الناطق ذو الإرادة والشعور. ووصف الإنسان على الحقيقة قد لا ينطبق إلا على هذه المعاني[1].

هوية الإنسان ووصفه في القرآن الكريم

أما اعتبار الجسد إنساناً لأنه جسد فهذا ما لم يقصده النص القرآني والآيات التي استدل بها ابن حزم. بل قد نجد القرآن يصف الإنسان المتحرك والفاقد لشروط الإنسانية بشر الدواب كما جاء في قوله تعالى: ﴿‌إِنَّ ‌شَرَّ ‌الدَّوَابِّ ‌عِنْدَ ‌اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الأنفال: 22].

من هنا، فتسمية الإنسان قبل الاكتمال دلالة على النتيجة، وتسميته بعد الموت وصف بالتبعية التي كانت حاله عند اكتمال التكوين. الجسد كجسد قد لا يدل على الإنسان إلا لخصوصيته النفسية وهي الروح العاقل والمدرك والمحرك للجسد ابتداءً.

ابن عبد البر والترادف بين النفس والروح

كمعاصر لابن حزم، نجد أبو عمر بن عبد البر النمري وهو يرى الترادف بين مصطلح النفس والروح والنَسَمة، ويستدل على ذلك بقول النبي : “من أعتق نسمة مؤمنة”[2]، وقوله: “إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر في الجنة”[3]، وقوله : “…إنه قبض أرواحنا، ولو شاء لردها إلينا”[4].

كذلك استدل ابن عبد البر بكلام العرب حيث يقول: “وتضع العرب النفس موضع الروح والروح موضع النفس. فيقولون: خرجت نفسه، وفاضت نفسه، وخرجت روحه. إما لأنهما شيء واحد أو لأنهما شيئان منفصلان لا يقوم أحد دون الآخر”[5]. وهذا التعبير يشير إلى فرض احتمال التمايز بين المصطلحين على المستوى اللغوي، رغم أن ابن عبد البر يذهب إلى اعتبار الروح والنفس والنسمة ألفاظا لشيء واحد في اللسان العربي.

وعلى عكس القول بالترادف، وطرح الاحتمال حول تمايز اللفظين، نجد ابن العربي المعافري يصرح بالتمايز بين المصطلحين، كما نقل عنه ابن حجر العسقلاني، بأن “ابن العربي المعافري قال: اختلفوا في الروح والنفس، فقيل متغايران وهو الحق، وقيل هما شيء واحد قال : وقد يعبر بالروح عن النفس  وبالعكس ،كما يعبر عن الروح والنفس بالقلب . وقد يعبر عن الروح بالحياة حتى يتعدى ذلك إلى غير العقلاء. بل إلى الجماد مجازا”[6].

ابن تيمية والنظرة الفقهية للروح والنفس

أما تقي الدين ابن تيمية بدوره يطرح مصطلح النفس في مقابل الروح بأنها “هي الروح المدبرة لبدن الإنسان… هي من باب ما يقوم بنفسه التي تسمى جوهرا وعينا قائمة بنفسها، ليست هي صفات قائمة بغيرها”. ويرى أن “التعبير عنها بلفظ الجوهر والجسم  فيه نزاع، بعضه اصطلاحي وبعضه معنوي.

فمن عنى بالجوهر القائم بنفسه فهي جوهر، ومن عنى بالجسم ما يشار إليه ، وقال إنه يشار إليها فهي عنده جسم . ومن عنى بالجسم المركب من الجواهر المفردة أو المادة والصورة ، فبعض هؤلاء قال إنها جسم أيضا. ومن عنى بالجوهر المتحيز القابل للقسمة ، فمنهم من يقول إنها جوهر. والصواب أنها ليست مركبة من الجواهر المفردة ، ولا من المادة والصورة وليست من جنس الأجسام المتحيزات المشهودة والمعهودة “[7].

وابن تيمية هنا يعرف النفس من جهة الحكم العقلي، وتموضعها الوجودي من حيث: هل هي تدخل في حكم الجوهر أو العرض كتحديد لماهيتها؟ وهذا مبحث عقلي صوري لتحديد طبيعة النفس أو الروح حسب الترادف أو عدمه.

غير أننا سنجد لدى ابن تيمية تعريفات اصطلاحية لغوية خاصة بالنفس ، كموضوع مستقل عن الكليات التي ينطبق عليها حكم الجوهر والعرض . وفيها يستند إلى اللغة العادية المرتكزة على النص الشرعي، فيذهب إلى أن “لفظ الروح والنفس يعبر بهما عن عدة معان، فيراد بالروح الهواء الخارج من البدن والهواء الداخل فيه. ويراد بالروح البخار الخارج من تجويف القلب من سويداء الساري في العروق، وهو الذي يسميه الأطباء الروح، ويسمى الروح الحيواني.

فهذان المعنيان غير الروح التي تفارق بالموت التي هي النفس، ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه كما يقال: رأيت زيدا نفسه وعينه.” وقال: ﴿‌كَتَبَ ‌رَبُّكُمْ ‌عَلَى ‌نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: 54]. وقال تعالى: ﴿‌وَيُحَذِّرُكُمُ ‌اللَّهُ ‌نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 30]. وفي الحديث الصحيح أنه قال لأم المؤمنين: “لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزن بما قلتيه لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله مداد كلماته “[8]. وفى الحديث الصحيح الإلهي عن النبي : يقول الله تعالى: “أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي. وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم”[9].

فهذه المواضيع المراد فيها بلفظ النفس- عند جمهور العلماء- الله نفسه، التي هي ذاته المتصفة بصفاته ليس المراد بها ذاتا منفكة عن الصفات، ولا المراد بها صفة للذات. وطائفة من الناس يجعلونها من الصفات كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات. وكلا القولين خطأ”[10].

ثانياً: هوية الإنسان والتوزيع الاصطلاحي

التعريف الأخير الذي ذهب بمفهوم النفس هو نفس الشيء ذاته، أي العينية، قد جاء هنا غير ضابط لا لمعنى النفس بمفهومها الوظيفي والغريزي، ولا لمعنى الروح بحقيقتها الجوهرية. لأن مفهوم نفس الشيء: ذاته، قد يمكن أن يشتمل الروح والنفس والجسد معا، وفي هذا عدم تخصيص. ولهذا فقد يبقى وضع مصطلح النفس كخصوصية غير وارد في هذه الحالة وليس له بعد علمي ومعرفي، وإنما هو سياق لغوي مجازي في أغلب حالاته.

وقد نجد هذا الاستعمال بكثرة في كتب التفسير أي تفسير القرآن والحديث معا[11]، فالنفس على رأي ابن تيمية، حسب التعريف اللغوي، هي الذات المنعوتة بالصفات، والصفات فيها الظاهرية والباطنية، أو بمعنى آخر أن النفس قد تشمل الروح والجسد معا. فهذا تعريف الإنسان وليس النفس.

وهنا قد تطرح مسألة أخرى اصطلاحية، وهي هل النفس تعني الإنسان كمرادف أو شطره الروحي أو الجسدي، بصورته الجوهرية أو العرضية؟

هذه المسألة ستجعلنا نعيد إلى الذاكرة تعريف ابن حزم للإنسان الذي يشمل: النفس والجسد، أو النفس تارة والجسد تارة أخرى. فيرى أن الفارق بين المفهومين، وإن كان كلاهما يؤخذ به، قد يكمن في أن الإنسانية يمكن أن تكون كلية، لغويا وموضوعيا. بحيث يمكن القول بأن كل إنسان فهو روح أو نفس أو جسد. بينما النفس لا يمكن أن تكون كلية إلا إذا كانت لا تعني سوى الوضع اللغوي وهي: كل نفس، فهي الإنسان بروحه وجسده، ولكنها لا يمكن أن تنطبق معرفيا، لأن النفس لا تشمل الجسد من حيث خصوصيتها وإن كانت لها به ارتباط موضوعي.

خلاصة تعريفات النفس في الفكر الإسلامي

ولا أريد أن أستطرد كثيرا في التعريفات الواردة من طرف البحاث المسلمين حول مصطلح النفس، إذ ما سبق وعرضناه قد يشمل أغلب الآراء الواردة في الموضوع عند جل المفكرين المسلمين للدلالة على هذا المعنى. لكن، قد يجدر بنا كتلخيص للتعريفات السابقة وغيرها مما لم نذكرها هنا هو ما لخصه وأجمله ابن قيم الجوزية الفقيه في كتابه “الروح”، الذي خصصه اسما وموضوعا للبحث النفسي والروحي. بحيث سيعتبر مرجعا مهما في موضوع النفس، نظرا لما تضمنه من مختلف الآراء والأفكار التي طرحها المفكرون المسلمون السابقون في هذا المجال.