من الآيات القرآنية الكونية التي وقف عندها كثير من المفسرين وعلماء الإعجاز، قوله تعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدة وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِۚ صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ } [النمل: 88].

فهذه الآية الكريمة؛ اختلف حول تفسير معناها المفسرون، فالمتقدمون من المفسرين ذهبوا إلى القول بأنها من مشاهد يوم القيامة؛ لأنَّ سياق الآية قبلها حديث عن القيامة في قوله تعالى: { وَيَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۚ وَكُلٌّ أَتَوۡهُ دَٰخِرِينَ } [النمل: 87].

يقول ابن كثير: “أَيْ: تَرَاهَا كَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، أَيْ: تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطُّورِ: 9، 10]، وَقَالَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طَهَ: 105، 107]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً} [الْكَهْفِ: 47]”.

وذهب بعض المحدَثين من المفسرين، وعلماء الإعجاز العلمي إلى أن الآية الكريمة متعلقة بمشاهد الدنيا، ذلك أنها تشير إلى حقيقة عظيمة لم تكن معروفة فيما مضى، وهي أن الأرض تتحرك وتدور حول نفسها وحول الشمس؛ فإن الناظر إلى الجبال يحسبها جامدة ساكنة لأول وهلة، لكنها في حقيقتها تمر مروراً شبيهاً بمرور السحاب وتنقلها، مع أن الناظر إليها يراها كأنها في مكانها تملأ السماء؛ فكذلك الجبال متحركة مع الأرض لكونها جزءاً منها.

ولم يرق لابن عاشور كلام المفسرين المتقدمين حول نظم الآية وأنها من مشاهد يوم القيامة، فقال: “وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ شِفَاءٌ لِبَيَانِ اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ الرَّائِيَ يَحْسَبُ الْجِبَالَ جَامِدَةً، وَلَا بَيَانِ وَجْهِ تَشْبِيهِ سَيْرِهَا بِسَيْرِ السَّحَابِ، وَلَا تَوْجِيه التذليل بِقَوْلِهِ تَعَالَى صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ فَلِذَلِكَ كَانَ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَضْعٌ دَقِيقٌ، وَمَعْنًى بِالتَّأَمُّلِ خَلِيقٌ”. ثم رجح من جهة السياق أنها من مشاهد الدنيا، الدال على حركة الأرض، وأنها إشارة للإعجاز العلمي بقوله: “وَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي أُودِعَ فِي الْقُرْآنِ لِيَكُونَ مُعْجِزَةً مِنَ الْجَانِبِ الْعِلْمِيِّ”.

ومن علماء الإعجاز العلمي من فسر التشبيه في الآية من منظور علمي؛ بأنَّ السحاب لا يمر من تلقاء نفسه، وإنما تسوقه الرياح، فهو محمول على الرياح، كذلك الجبال حركتها من حركة الأرض المحمولة عليها، لا من حركة ذاتية؛ لهذا فالجبال تمر مر السحاب، “فما أروع التشبيه وما أعمق الإشارة إلى حركة الأرض، وهي تحمل معها الجبال، بأسلوب قرآني معجز لا يصدم العامة في إحساسهم بعدم حركة الأرض، ولا ينافي في الوقت نفسه الحقيقة الكونية، التي وصل إليها العلم الحديث”.

منظر جبلي خلاب يغطيه الثلج مع غيوم تتدفق بين القمم. تظهر الأشجار المغطاة بالثلج في المقدمة، بينما تمتد الجبال الزرقاء في الخلفية تحت سماء ضبابية.

ويظهر أنّ ما ذهب إليه دارسو الإعجاز العلمي المحدثون؛ تؤكده الأسس اللغوية في السياق، فمن حيث الاتصال والتناسب في الآية مع ما قبلها؛ فإنه وإن جاءت عقب آية تتحدث عن النفخ والبعث في قوله تعالى: ﴿…وَيَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ … ‌وَتَرَى ‌ٱلۡجِبَالَ تَحۡسَبُهَا جَامِدَة…﴾ [النمل: 86-88] فهذا من أساليب القرآن الكريم، أن يذكر مشهداً من مشاهد الحياة والكون المرئية الشاهدة على القدرة والصنع والإبداع؛ ليؤكد بها مشاهد الغيب ويرسخها في نفوس المتلقين لذلك، من ذلك قوله تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَقَلَّتۡ سَحَابا ثِقَالٗا سُقۡنَٰهُ لِبَلَد مَّيِّت فَأَنزَلۡنَا بِهِ ٱلۡمَآءَ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِۚ كَذَٰلِكَ نُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 57] فقد استدل بظاهرة كونية مشاهدة محسوسة على تأكيد البعث وترسيخه في النفوس.

ثمَّ إنَّ السباق في سياق الآية قبلها حديث عن ظاهرتين كونيتين هما الليل والنهار في قوله تعالى: (ألَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا جَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ لِيَسۡكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰت لِّقَوۡم يُؤۡمِنُونَ) فكأن آية النفخ والبعث وقعت معترضة بين آيتين كونيتين تتحدثان عن مشاهد الحياة والإعجاز؛ لتثبت حقيقة البعث والنشور بحقيقتين علميتين من مشاهد الكون.

وإذا نظرنا في دلالات المفردات في السياق؛ سنجد دلالة الفعل المضارع “ترى” فيه معنى الحدوث والتجدد في الرؤية، بحاسة العقل والتأمل والعلم، وهي أعمق وأدق وأثبت في النفس، “ثمَّ إنَّ مفردة (تحسبها) هي في الحقيقة متعلقة بالفعل الذي قبلها (ترى)، والمسوّغ نحواً اعتبار (تحسبها) بدلاً من(ترى)، أو حالاً من ضمير (ترى) أي: أنّ الرائي يراها لحظة ما يراها في هيئة الساكنة؛ وهو في الحقيقة ظن؛ فالواقع خلافه، فالرائي يراها جامدة، والحقيقة أنها تمر. وفي هذا إشارة إلى أنّ الآية تقرر حقيقة حركة الأرض، لا حقيقة تحوّل الجبال في الآخرة”.

ثمَّ إنَّ مشاهد الآخرة حقائق لا ظن فيها ولا حسبان، خصوصاً في مقام التهديد والتهويل من نسف الجبال ودكها، وأمّا من يستدل على ورود الحسبان في سياق الآخرة بقوله تعالى في وصف الولدان: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيۡهِمۡ وِلۡدَٰن مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيۡتَهُمۡ ‌حَسِبۡتَهُمۡ لُؤۡلُؤا مَّنثُورا﴾ [الإنسان: 19] فإنّ هذا غاية الوصف في المبالغة في التشبيه، إذ يحسبهم الرائي لحسن جمالهم وانتشارهم كاللؤلؤ المنثور، وهذا حاصل في مقامات المبالغة والتشبيه؛ خلافاً لمقامات الهول والوعيد؛ فإنَّ الظن فيها والحسبان؛ خفوت للصورة في الأذهان!

وأما كلمة (جامدة) فهي بمعنى ساكنة، كما قال الزمخشري: “ساكنة من جمد في مكانه إذا لم يبرح” وبهذا المعنى تتسق وتنسجم مع المفردة المقابلة لها وهي (تمر) إذ لو كانت بمعنى جامدة متلاحمة عكس مفتتة؛ لما انسجمت مع لفظة (تمر).

منظر طبيعي لجبال حمراء في صحراء سونوران مع شمس تشرق في الأفق. تعكس الصخور اللامعة أشعة الشمس، بينما تملأ النباتات الخضراء الوادي. السماء واضحة مع بعض السحب، مما يضيف جمالاً للمنظر.

وفي المفردة (تمر) تأكيد للإعجاز العلمي في الآية؛ يقول جمال الدين القاسمي: “هذه الآية صريحة في دلالتها على حركة الأرض، ومرور الجبال معها في هذه النشأة. وليس يمكن حملها على أن ذلك يقع في النشأة الآخرة، أو عند قيام الساعة، وفساد العالم وخروجه عن متعاهد النظام”.

وأشارت الآية الكريمة في ختامها إلى دقة صنع الله وإتقانه، بقوله تعالى: ﴿‌صُنۡعَ ‌ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ﴾ [النمل: 88]. وهذا التذييل في بديع نظم الآية؛ إخبار عن إحكامه الخلق سبحانه؛ وأن هذا الكون صنعه الله على هيئة عظيمة متقنة، من خلقه الجبال المحمولة على الأرض؛ تتحرك بحركتها، في اتزان دون اضطراب، ودون أدنى شعور بحركتها؛ فالذي أتقن ذلك بشواهد الآيات في الكتاب المقروء، وحقائقه العلمية المشاهدة في الكون المنظور؛ هو الخالق القادر على البعث والنشور، ﴿إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ﴾ [النمل: 88]..

وهذا التذييل في إبراز عظمة الصنعة والإتقان؛ يتناسب مع سياق مشاهد الحياة والانتشار، لا مع مشاهد انتهاء الكون والاندثار.