الأدب في الخطاب ينم عن ذوق رفيع، وخلق عظيم، وعلم جم. يذكر النيسابوري في تفسيره غرائب القرآن 5/41 قال: “يحكى أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت: يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصا. فقال لها: ألطفت في السؤال لا جرم لأردنها تثب وثبة الفهود وملأ بيتها حبا”.
وكان في دار هارون الرَّشيد حزمةٌ من خيزران، فقال لوزيره الفضل بن الرَّبيع: ما هذه؟ فقال: عروقُ الرِّماحِ يا أَميرَ المؤمنين، ولم يُرِد أَن يقول: الخيزران؛ لموافقته اسم أُمِّ هارون الرّشيد “الخيزران بنت عطاء”.
وأَحد الخلفاء سأل ابنه من باب الاختبار: ما جمع مِسواك؟ فأَجابه ولده بالأَدب الرَّفيع جمعه: “ضدُّ مَحَاسِنُك يا أمير المؤمنين”، ولم يقل: “مَسَاوِيك”؛ لأَنَّ الأَدبَ قوَّمَ لسَانَهُ وحَلَّى طِبَاعَه.
وفي كتاب الله من هذا ما يبهر ويمتع ففي قصة نبي الله موسى مع الخضر نجد موسى عليه السلام يخاطب الخضر قائلا: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} الكهف -66. هذا غاية الأدب وحسن الخطاب، هل يتفق لك ويخف عليك، أن أتبعك ولم يقل: أن أصاحبك.
يقول الرازي في تفسيره 21/483: “هذه الآيات تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواعا كثيرة من الأدب واللطف عند ما أراد أن يتعلم من الخضر.
فأحدها: أنه جعل نفسه تبعا له لأنه قال: هل أتبعك.
وثانيها: أن استأذن في إثبات هذا التبعية فإنه قال هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعا لك وهذا مبالغة عظيمة في التواضع.
وثالثها: أنه قال: “على أن تعلمن” وهذا إقرار له على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم.
ورابعها: أنه قال: “مما علمت” وصيغة من للتبعيض فطلب منه تعليم بعض ما علمه الله، وهذا أيضا مشعر بالتواضع كأنه يقول له لا أطلب منك أن تجعلني مساويا في العلم لك، بل أطلب منك أن تعطيني جزأ من أجزاء علمك، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزأ من أجزاء ماله.
وخامسها: أن قوله: مما علمت اعتراف بأن الله علمه ذلك العلم.
وسادسها: أن قوله: “رشدا” طلب منه للإرشاد والهداية والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلال”. انتهى
وفي ذات القصة نجد مثل هذا الأدب والرقي في الخطاب لدى الخضر حين ينسب الخير والفعل الجميل إلى ربه وما كان دون ذلك ينسبه إلى نفسه.
ففي خرق السفينة يقول الخضر: “فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها” ولم يقل أراد ربك ؛ لأن كونه يخلع لوحاً من السفينة، في ظاهره نوع من الشر والإفساد، ولذا فقد أنكره موسى لما رآه فنسب الخضر إرادة ذلك إلى نفسه أدباً مع الله سبحانه مع أن ذلك قد كان بوحي، فقد قال بعد ذلك في القصة: “وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي”.
وكقوله أيضا في شأن قتل الغلام: {فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} الكهف – 81.
فلم يسند الإرادة في القتل إلى الله؛ لأن ظاهر الفعل مما ينكر وقد أنكره موسى عليه السلام، ولما ذكر الخضر رجاء إبدال أبويه خيرا منه أسند ذلك إلى الله فالخير المحض ينسبه إليه وما كان مشتركا بين ما يحمد ويذم لا ينسبه إليه أدبا. ومما يوضح ذلك أكثر أنه في شأن الجدار الذي أراد أن يميل فقام على إصلاحه ليظل الكنز مدفوناً ومحفوظاً للغلامين اليتيمين حتى يبلغا قال لموسى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}، ثم قال:{فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما} الكهف – 82. فأسند الإرادة هنا إليه لأنه خير محض.
وتأمل – يا رعاك الله- أدب إبراهيم – عليه السلام – في قوله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطعِمُنِي وَيَسقِينِ } الشعراء- 78-79.، فنسب الخلق والهداية والنعم المحضة إلى الله لكنه لما ذكر المرض قال: {وَإِذَا مَرِضتُ فَهُوَ يَشفِينِ} كمال الأدب فلم يقل: والذي هو يمرضني مع أن ذلك كله بقضائه وقدره، ولكن تأدباً مع ربه جعل ينتقي العبارات ويتأنق في خطاب رب الأرض والسموات.
أيوب عليه السلام
ونجد نبي الله أيوب عليه السلام وقد نزل به من البلاء ما يهد الجبال الرواسي، لكنه في غمرة ذلك لا ينسى الأدب مع ربه، نعم العبد هو: {وَأَيٌّوبَ إِذ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضٌّرٌّ وَأَنتَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ} الأنبياء- 83. فلم يقل أنزلت بي الضر وابتليني بالمرض مع أن ذلك كله من الله كما في قوله: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} الأنعام- 17. فما كان دعاء أيوب إلا عرضا عرضه على الله تبارك وتعالى يخبره بالذي بلغه، صابرا لما يكون محتسبا فيه، والمس: الإصابة الخفيفة. والتعبير به حكاية لما سلكه أيوب في دعائه من الأدب مع الله إذ جعل ما حل به من الضر كالمس الخفيف هكذا يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير.
وقال النيسابوري في تفسيره غرائب القرآن 5/41 :” ومما حكاه الله سبحانه من شكوى أيوب قوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} الضر بالفتح الضرر في كل شيء، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال.
قال جار الله: ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة عليه وذكر ربه بما يجب أن يصدر دعاء الرحمة عنه ولم يصرح بالمطلوب، وحسن الطلب باب من أبواب الأدب”.
خطاب الجن
هذا الأدب في الخطاب مع الله تعالى ليس مقتصرا على أنبياء الله ورسله وبني البشر بل الجن كذلك قد تأدبوا في الخطاب مع الله كما في قوله: {وَأَنَّا لا نَدرِي أَشَرُّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرضِ أَم أَرَادَ بِهِم رَبٌّهُم رَشَداً} الجـن- 10. هذا الأسلوب في غاية الأدب مع الله، حيث بنو الشرَ للمجهول، وأما الرشد فبنوه للمعلوم ونسبوه إلى الحي القيوم سبحانه.
والمتأمل في كتاب الله تعالى يجد هذه السمة ظاهرة، وهذا الأدب مسطورا، لا تخطئه عين، ولا ينبوا عنه سمع، ولنأخذ مثالا أو مثالين على ذلك. قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ *وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} الأعراف-175-176.
قال الآلوسى في تفسيره 5/106: ” وما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه تعالى ونسبة الانسلاخ والإخلاد إلى العبد مع أن الكل من الله تعالى، إذ فيه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه”.
والمثال الثاني قوله تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ} الشورى -48. فالرحمة والإنعام مما ينسب إليه دون ما يقابل ذلك من الضر والخطيئة.
ومثل هذا كثير جدا في كتاب الله حتى في سورة الفاتحة نلمح شيئا منه عند تدبرها، وكمال هذا الأدب هو ما أجمله الحديث الوارد عن الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه في قوله: “لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشرّ ليس إليك” رواه مسلم في صحيحه.
ما أحوجنا إلى هذا الأدب في الخطاب ولو فيما بيننا لكنا أحوج ما نكون إليه في خطابنا لربنا وتضرعنا بين يديه.