قال تعالى : { وكذلك مكّنا ليوسف في الأرض يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } (يوسف : 56 )
يوسف عليه السلام، آمن وتعلم وصبر وتعفف حتى تمكن، فعاش مُمَكّناً أعواماً عديدة، حتى كان يُشار إليه بالبنان منذ أن جعله الملك على خزائن مصر حتى وفاته. وخلّد القرآن ذكر تمكينه وأسباب الحصول على ذلك التمكين وبقائه. وفي المقابل، جاء فرعون وقد تمكّن من حكم مصر، فكان صاحب الرأي الأوحد والقرار الذي لا يُرد. وخلّد القرآن ذكر ذلك التمكين وبين أسباب فقدانه، بل وأشار إلى نهاية دنيوية ذليلة، وأخرى تنتظره في آخرته. أما الأول، فقد تمكن حتى صار تمكينه نموذجاً خالداً يُدرّس، فيما الثاني تمكّن إلى حين من الدهر قصير، لكنه فقد تمكينه وزال من الحياة في لحظات، وكأن لم يلبث فيها إلا يوماً أو بعض يوم!
وحول التمكين يدور حديثنا اليوم.
التمكين في اللغة هو امتلاك قدرات ومهارات وعلوم وأدوات، تجعلك تسيطر على أمر ما سيطرة شبه تامة، لتصل بعد حين من الدهر، طال أم قصُر، إلى تمام التمكن، حتى تكون صاحب الأمر والتوجيه الأوحد بعد ذلك الامتلاك. والتمكين بشكل عام قد يكون عند فرد، أو جماعة، أو دولة، أو بشكل أشمل وأوسع، عند أمة من الأمم. على المستوى الفردي، يصل الشخص إلى التمكن في عمله على سبيل المثال، عبر امتلاك قدرات مميزة ومهارات بارزة وخبرات نوعية ومعارف متنوعة، تجعله بالتالي صاحب الكلمة الأولى في عمله. فهذا يوسف – عليه السلام – الذي بدأنا الحديث عنه، أبرز الأمثلة البشرية (وكذلك مكّنّا ليوسف في الأرض) أي منحناه المكانة التي يريدها والتي استحقها بعلمه وصبره وإيمانه. المكانة التي اختارها هو بنفسه، بعد وصوله لمستوى من التمكن جعله يطلب مسؤولية معينة غاية في الأهمية والتأثير وبكل ثقة ويقين.
على مستوى أكبر، نجد دولة المدينة التي أسسها المصطفى – عليه الصلاة والسلام – نموذجاً للدولة المتمكّنة. فحين وصلت دولة الإسلام الأولى إلى درجة من التمكّن، فاعلة ومؤثرة، بدأت تخاطب أخريات كبريات في العالم وبثقة المؤمن الموقن بمعية ونصر الله، من بعد امتلاك أسباب القوة والترهيب، المادية منها والمعنوية، بل وامتلكت زمام المبادرة أيضاً.. لكن سؤالاً يقول:
هل التمكين للمؤمن فقط؟
هذا تساؤل قد يتبادر إلى ذهنك بعد أن عرجنا على نموذج واحد فقط من التمكن الفردي، وآخر من التمكن على مستوى الدولة، لتتساءل حول مدى ارتباط التمكين بالدين، أو بمعنى آخر، هل التمكين محصور فقط على المتدين؟ الإجابة باختصار شديد، لا. ليس شرطاً أن يكون التمكين للمؤمن فقط، بل يمكن أن يكون للكافر أيضاً، لكن بشرط أن يكون عادلاً لا يظلم، وصاحب أخلاق وعمل صالح. هذا الشخص غير المؤمن والمُمكّن في الوقت نفسه، يمنحه الله جزاء التزامه بالشروط السابقة، تمكيناً في الأرض ولكن إلى حين.
أي ليس الأمر يمتد معه إلى ما لا نهاية، بل تلك المنحة الإلهية إنما مقابل تلك الأعمال أولاً، ومن ثم المنحة تلك إنما هي نوع من الإمهال له أيضاً وتذكيره بأهمية الوصول بعد كل هذا التمكين إلى الامتثال لأوامر الله كما جاءت به الرسل، لأن الاستمرار على الكفر، رغم كل أعماله الصالحة أو تفوقه العلمي والمهاري والقدراتي، أو عدله وأخلاقه الطيبة، لا تغنيه عن حقيقة ووجوب خضوعه لله نهاية الأمر، وتلك نقطة أهلك التغافل عنها الكثير الكثير منذ الأزل، أفراداً وشعوباً وحضارات.
لا أريد أن أبحر وأتوسع كثيراً في عالم التمكين الواسع بذاته، فما يهمنا ها هنا هو التوقف للحظات قليلات مع أكثر أنواع التمكين رعباً وتخويفاً، وهو ذلكم الذي تحدث عنه القرآن حول حضارات كانت متمكنة، وشعوب وأفراد كانوا متمكنين، وقد بلغت شهرتهم وقوتهم الآفاق. حيث تمكنوا في الأرض وامتلكوا أسباب القوة والإنتاج والعمران وغيرها. لكن حين وصلت الأمور بهم بعد حين من الدهر طويل، إلى الحقيقة الحياتية الكبرى التي ذكرناها آنفاً، وهي وجوب الخضوع لله نهاية الأمر والاستسلام والانقياد له بالطاعة، كفروا وتجبروا وعصوا الرسل والآيات، فانتهت سيرتهم، بل كل أسباب قوتهم، فصاروا أثراً بعد عين.
انتهت سيرتهم في لحظات، وانتهت معهم واختفت كل مظاهر العمران والتمكين التي كانوا عليها، لتسير بعدها الحياة في دورتها دونهم، وكأنما لم يُخلقوا أساساً ولم يكن لهم أثر في هذه الحياة الدنيا، ليأتي من بعدهم آخرون لأجل أن تستمر معهم الحياة في دوراتها المتتابعة، وإلى حين يرث الله الأرض ومن عليها. وصف القرآن تلكم المشاهد، وأوضح لكل من يأتي بعدهم وإلى قيام الساعة، بأن قواعد ومعادلات الحياة الدنيا هي هي، لا تتغير بتغير الزمان أو المكان (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكّناهم في الأرض ما لم نُمكّن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين).
قواعد ومعادلات
التمكين إذن عبارة عن مجموعة من القواعد أو المعادلات. طاعة الله أولى القواعد. ثم تليها قواعد أخرى كالعلم والعمل الصالح، تصحبهما أخلاق فاضلة ضمن إطار من العدل والقسط بين الناس. فإن نجحت أيها الإنسان في حفظها ومسايرتها والتوافق معها بشكل صحيح، حصلت على مبتغاك ومرادك، ومكّنك الله في عملك أو محيطك أو حياتك بشكل عام. وهذا الحديث مثلما أنه موجّه للأفراد، فهو كذلك للدول والأمم والشعوب. الأمر أو القواعد والمعادلات هي نفسها لا تختلف.
أما تجاوز تلك القواعد والمعادلات، فلا شك أنه يؤدي إلى دخول تدريجي في عالم التمكين المخيف، أو – إن صح وجاز لنا التعبير- الاستدراج الخفي الذي لا يتنبه له كثير من المتمكنين، حتى يصير الاعتقاد لديهم بعد تكاثر الخيرات وامتلاك أساليب وأدوات القوة والسيطرة في الأرض، أن ذلك التمكين نوع من الرضا الإلهي، رغم علمهم ويقينهم بأمر مخالفتهم لقواعد البقاء واستمرارية منحة التمكين لديهم، فيحدث إثر ذلك مع الزمن، نوع من التغافل المتدرج لأوامر الله وما أنزله على رسله، ليستمر فعل التغاضي والتغافل عن أفعال وسلوكيات متنوعة غير مقبولة يرونها هينة، وهي عند الله عظيمة، تجلب نقمة تتبعها حسرة وندامة.
لقد كان قارون في الزمن الغابر، مثالاً ونموذجاً آخر للفرد المتمكّن، ومثله أقواماً متمكنين كعاد وثمود وسبأ وغيرهم. لتظهر اليوم مشاهد جديدة من التمكين كما الحاصل عند الحضارة الغربية بشكل عام، والتي بدأت تتغافل وتتناسى حقيقة التمكين المخيف مع الزمن، بل هم اليوم في غفلتهم يعمهون { فلما نسوا ما ذُكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون}.
إنهم بعد أن أعرضوا عن أوامر الله وتناسوها وجعلوها وراء ظهورهم – كما جاء في تفسير ابن كثير – (فتحنا عليهم أبواب كل شيء) أي فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم، عياذاً بالله من مكره؛ ولهذا قال (حتى إذا فرحوا بما أوتوا) أي من الأموال والأولاد والأرزاق (أخذناهم بغتة) أي على غفلة (فإذا هم مبلسون) أي آيسون من كل خير، وهو الحزن الشديد والندم على أمر فات، وهو ها هنا، كل ذلك الخير والتمكين الذي كانوا عليه. إنَّ تجاوزات هذه الحضارة وبطر الحق وغمط الناس ومصادمة الفطرة البشرية، مؤشرات على احتمالية زوال التمكين الذي هي عليه منذ عقود، فالجزاء من جنس العمل.