يقول الحق سبحانه: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
لقد ضرب الله في القرآن أمثلة كثيرة منها: مثل الذي استوقد ناراً، ومثل الذي ينعق بما لا يسمع، ومثل الحبة التي أنبتت سبع سنابل، ومثل الكلب الذي يلهث، ومثل الحمار يحمل أسفاراً، والذباب إذا استلب شيئا، وبيت العنكبوت، ومثل الأعمى والأصم، والبصير والسميع، ومثل الرماد الذي اشتدت به الريح في يوم عاصف، ومثل المشكاة التي فيها مصباح، والرجل الذي فيه شركاء متشاكسون، وغيرها.
إذا المتأمل في القرآن يجد الأمثال حاضرة كثيرة وهو كتاب هداية وإرشاد وكتاب فصاحة وبيان، ولعل كثرة إيراد الأمثال فيه سببه أن المعاني المعقولة لا تستقر في الذهن، إلا إذا صيغت في صورة حية قريبة الفهم، والأمثال تبرز المعقول في صورة المحسوس وتكشف عن الحقائق وتعرض الغائب في معرض الحاضر، وتجمع المعنى الرائع في عبارة موجزة وألفاظ يسيرة.
ولذلك أبرزها القرآن، واهتم بضربها للناس لعلهم يتفكرون فهي من أفضل الوسائل لغرس القيم وتهذيب النفوس وتغيير السلوك. فلها كما يقول الزمخشري “شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب بأنه مشاهد”
وتتصف الأمثال في القرآن الكريم بالتنوع والشمول بغية دفع الإنسان إلى قمة الكمال.
والأمثال كما قال الزركشي تستعمل في القرآن لأغراض كثيرة جدا منها: “التذكير، والوعظ، والحثّ والزجر، والاعتبار، وترتيب المراد للعقل، وبيان تفاوت الأجر، والمدح والذمّ، والثواب والعقاب، وعلى تفخيم أمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر أو إبطاله، فامتنّ الله علينا بذلك لما تضمنت هذه الفوائد، وقال تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) [الروم: 58]، ومنها أيضاً: تعليم البيان، وهو من خصائص هذه الشريعة، والمثل أعون شيء على البيان”.
وبالمثال يتضح المقال فتأمل هذه الآية من سورة إبراهيم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26)}
هذا يبيّن قدرة المثل القرآني، وبراعته في تحويل المعنى المجرّد، إلى صور محسوسة، والتمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها؛ لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها كما يقول الزمخشري.
لقد رغبت الآية من خلال هذا المثل في الكلمة الطيبة فقد مثلتها بما هو محبوب للنفوس مرغوب لديها جميل عندها، ونفرت من الكلمة الخبيثة عن طريق تمثيلها بما هو مكروه للنفوس، تنفر منه وتستقبحه. وهذا أدعى إلى إيقاظ همة المخاطب، وبعث كوامن نفسه، واستنهاض أحاسيسه ومشاعره ووجدانه؛ للإقبال نحو تحقيق غرض هذا التمثيل وغاياته.
يقول ابن القيّم رحمه الله: “وإذا تأمَّلتَ هذا التشبيه رأيتَه مطابقاً لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب، التي فروعُها من الأعمال الصالحة صاعدةً إلى السماء، ولا تزال هذه الشجرة تُثمر الأعمال الصالحة كلَّ وقتٍ، بحسب ثباتها في القلب، ومحبَّة القلب لها، وإخلاصِه فيها، ومعرفتِه بحقيقتها، وقيامه بحقوقها، ومراعاتِها حقَّ رعايتها،… والمقصود أنَّ كلمةَ التوحيد … أصلها ثابت راسخ في قلبه، وفروعها متَّصلة بالسماء، وهي مخرجة لثمرتها كلَّ وقت”
وضرب هذا المثل لهذا المعنى أبلغ ما يكون لترسيخه وتقريره في النفس. لكن لا يَعْقِلُ ذلك إِلَّا الْعَالِمُونَ. قال السعدي -رحمه الله تعالى- في تفسيره: ” (وما يعقلها) بفهمها وتدبرها، وتطبيقها على ما ضُربَت له، (إلا العالمون)، إلا هل العلم الحقيقي، الذين وصل العلمُ إلى قلوبهم، وهذا مدح للأمثال التي يضربها، وحثٌّ على تدبرها وتعقلها، ومدح لمن يعقلها، وأنه عنوان على أنه من أهل العلم، فعلم أن من لم يعقلها ليس من العالمين، والسببُ في ذلك أن الأمثال التي يضربها الله في القرآن، إنما هي للأمور الكبار، والمطالب العالية، والمسائل الجليلة.
فأهلُ العلم يعرفون أنها أهم من غيرها، لاعتناء الله بها، وحثه عباده على تعقلها وتدبرها، فيبذلون جهدهم في معرفتها.
وأمَّا مَنْ لم يعقلها مع أهميتها، فإن ذلك دليل على أنه ليس من أهل العلم، لاْنه إذا لم يعرف المسائل المهمة، فعدم معرفته غيرها من باب أولى وأحرى؛ ولهذا أكثر ما يضرب الله الاْمثال في أصول الدين ونحوها”.
كان بعضُ السلف إذا مرَّ بمثل لا يفهمه يبكي ويقول: لستُ من العالمين لأن الله يقول:(وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)
قال الطاهر بن عاشور: “العقل هنا بمعنى الفهم ، أي لا يفهم مغزاها إلا الذين كملت عقولهم فكانوا علماء غير سفهاء الأحلام . وفي هذا تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بها جهلاء العقول ، فما بالك بالذين اعتاضوا عن التدبر في دلالتها باتخاذها هزءا وسخرية ، فقالت قريش لما سمعوا قوله تعالى : (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه)، وقوله: (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا) قالوا : ما يستحيي محمد أن يمثل بالذباب والعنكبوت والبعوض . وهذا من بهتانهم ، وإلا فقد علم البلغاء أن لكل مقام مقالا، ولكل كلمة مع صاحبتها مقام”.
ومثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب، ولا ريح لها، كما جاء في السنة المطهرة فلنكن كالأترجة طعهما طيب وريحها طيب بقراءة القرآن وحفظه وتدبره والعمل به.
به فنون المعاني قد جمعن فما * تفتر من عجب إلا إلى عجب
أمر ونهى وأمثال وموعظة * وحكمة أو دعت في أفصح الكتب
لطائف يجتليها كل ذى بصر * وروضة يجتنيها كل ذي أدب
فَيَا أَيُّهَا الْقَارِي بِهِ مُتَمَسِّكاً … مُجِلاًّ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ مُبَجِّلا
هَنِيئاً مَرِيئاً وَالِدَاكَ عَلَيْهِما … مَلاَبِسُ أَنْوَارٍ مِنَ التَّاجِ وَالحُلاْ
فَما ظَنُّكُمْ بالنَّجْلِ عِنْدَ جَزَائِهِ …أُولَئِكَ أَهْلُ اللهِ والصَّفَوَةُ المَلَا
جعلنا الله من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته.