الوهم بحسب التعريف الطبي هو عدم قدرة الفرد على التمييز بين الواقع وما يتخيله. وهو أنواع عديدة لن نسترسل ونتحدث عن تلكم الأنواع سوى نوع واحد هو ما يسمى بـ وهم العظمة، أو ما يسميه الأطباء بجنون العـظمة، الذين قالوا في تعريفاتهم إنه مزيج من مشاعر وأفكار ناتجة عن شعور مبالغ فيه من القلق، أو الخوف، أو الاضطهاد، أو التهديد، أو التآمر، بحيث تتحول تلك المشاعر أو الوهم بعد حين من الدهر قصير، إلى معتقدات غير حقيقية، لكن يؤمن بها من يعيش هذا الوهم أو جنون العظمة.
قد تلعب الجينات أو الصفات الوراثية في صناعة هذا الوهم في الإنسان، لكن العنصر الأهم في ابتلاء المرء بهذا الوهم، هو البيئة المحيطة التي يعيشها من هو مبتلى بهذا المرض النفسي، إن صح وجاز لنا التعبير. فالمشكلات والاضطرابات العائلية، أو ما حولها تزيد من احتمالية أن يُبتلى المرء بهذا الوهم أو وهم العظمة، بحيث تراه بعد الابتلاء، أنه دائم الريبة والشك في الآخرين من حوله حتى يتعمق هذا الوهم عنده، ليبدأ يعتقد أن أي وجهة نظر أو انتقاد يسمعه أو يقرأه، إنما هي إشارات أو رسائل تقصده هو دون غيره، أو أن أفعالهم وأقوالهم لابد أنها موجهة ضده أو تقصده، بالإضافة إلى شعور خفي دائم عنده ويتعمق، مفاده أن دوره في البيئة التي يعيشها مهم، لكنه غير معترف به، وأن هناك من يسعى دوماً للانتقاص من قيمته وشأنه وإحباط جهوده!.
إنّ أسوأ السيناريوهات في هذا الأمر، أن يُبتلى بهذا المرض من تؤول إليه الأمور بقدرة قادر ليكون صاحب قرار، كأن يكون رئيس دولة، أو وزيراً في دولته أو مديراً عاماً في شركة أو مؤسسة ما، أو مدير إدارة أو ما شابه من مناصب ذات صلاحيات.. فإن حدث وصار المبتلى بجنون العظمة صاحب قرار في كيان ما، دولة كانت أم وزارة أم شركة أم نحوها، فإن الأجواء مهددة بأن تتسمم وتحيطها سحب القلق والتوتر، وفي الوقت ذاته تنشط جماعات التطبيل أو النفاق، الباحثة عن مصالحها قبل أي شيء، حيث ترى في إحاطة هذا الموهوم بالعظمة، فرصة ذهبية لاحت لهم وربما لا تتكرر، إن هم لم يستغلوها في تحقيق أكبر كمٍ من المكاسب بالشكل المناسب، وفي الوقت المناسب.
فقال أنا ربكم الأعلى
ربما وأنت تقرأ في هذا الموضوع، بدأت في استحضار نماذج من هؤلاء ربما أوقعتك الأقدار يوماً التعامل معهم، أو أنك ما زالت تتعامل معهم، وصرت مجبراً على تحمل الكثير من المعاناة والآلام لظروف حياتية أجبرتك البقاء تحت ظلهم..
قد يكون أفضل مثال تحدث كثيرون عنه وما زالوا، وربما سيأتي من يتحدث عنه مستقبلاً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، هو ذاك الفرعون الذي كان في زمن موسى وهارون عليهما السلام. الفرعون الذي ارتكب جرماً لم ولا أظن أحداً من بني البشر سيرتكبه، حتى تساوى هو وإبليس في الدرجة.
فأما إبليس فقد استكبر وعصى أمر خالقه لأوهام اعتقد بصحتها، فكان نصيبه الطرد من رحمة الله بشكل قاطع نهائي. وأما فرعون هذا، فقد ادّعى الألوهية { فقال أنا ربكم الأعلى } (النازعات: 24) ثم جاء في موقف آخر { وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري } (القصص : 38) هكذا أوصلته أوهامه وجنون العظمة فيه إلى أن يدّعي الألوهية، في سابقة بشرية غير معروفة.
هذا الفرعون هو أبرز نموذج بشري أصابه مرض الوهم، أو وهم وجنون العظمة، فكان بلاء على شعب مصر، سواء المصريون أو غيرهم كبني إسرائيل.. الجميع عانى من أوهامه وشكوكه وارتيابه في أغلب من كان حوله قبل غيرهم من عامة الناس، وتلك الأوهام تسببت بالضرورة في معاناة الناس تحت حكمه سنين طويلة، حتى انتشر الرعب والخوف في مملكته، فكان بلاءً وعذاباً مستمراً.
نهايات بائسة
استمرت أوهام الفرعون حتى آخر دقائق حياته في مشهد نهائي، أو مشهد وصوله إلى البحر وهو يطارد بني إسرائيل.. فقد كان مشهد انفلاق البحر لبني إسرائيل على يد موسى عليه السلام، مشهداً رهيباً، وإن لم يحضر فرعونُ وجنوده لحظة الانفلاق تلك، التي وبقدرة الله تحول قاع البحر إلى اثني عشر طريقاً يبساً على عدد أسباط بني إسرائيل.
يقترب فرعون وجنوده من البحر بعد حدوث الانفلاق، حتى إذا أشرف على الماء، كما جاء في تفسير الطبري، قال أصحاب موسى: يا مكلّم الله، إنّ القوم يتبعوننا في الطريق، فاضرب بعصاك البحر فاخلطه، أي أعده إلى ما كان عليه حتى يكون حاجزاً بيننا وبين هذا المهووس بالعظمة وجنون الارتياب. فأراد موسى أن يفعل، فأوحى الله إليه { أن اترك البحر رَهْوا } أي اتركه على حاله، فإنما أمكرُ بهم، فإذا سلكوا طريقكم أغرقتهم.
فلما نظر فرعون المتكبر المتجبر إلى البحر قال: ألا ترون البحر؟ فَرَقَ مني حتى تفتّح لي حتى أُدْرك أعدائي فأقتلهم ! هكذا وصل به الظن والجنون والوهم، فسار هو وجنوده نحو بني إسرائيل، حتى إذا ما انتهى إلى وسط البحر، أوحى الله إلى البحر أن خذ عبدي الظّالم وعبادي الظلمة، فإني قد سلطتك عليهم. فتغطغطت تلك الفرق من الأمواج كأنها الجبال، أي غطست تحت تلك الأمواج. فغرق فرعون وجنوده ولم يخرج أحد من أولئك الظالمين، وفي الطرف المقابل يقف بنو إسرائيل مع موسى وهم ينظرون.
نهاية دنيوية بائسة لمجنون عظمة، تنتظره حسابات أخروية أليمة. ولا أقول بأن نهايات كل مهووس أو مجنون عظمة تكون كنهاية فرعون، لكن من المؤكد أن المبتلى بهذا الوهم، والذي يخلو قلبه من إيمان بالله وحُسن ظن به، سيتعمق في أوهامه وجنونه حتى يرتكب آثاماً وكبائر ذنوب، خاصة إن وجد تفاعلاً إيجابياً يؤيد أفعاله وأقواله من لدن زمرة مطبلين أو منافقين منتفعين.
ومن المؤكد أيضاً، أن نهايته ستكون بائسة يسجد كثيرون لله شكراً على خروجه من مشهد حياتهم. وللأسف أن أمثاله كثير اليوم كما كان بالأمس، ولا تتسع المساحة ها هنا لحصرهم فضلاً عن ذكرهم..
فاللهم لا تسلّط علينا مجنون عظمة، لا يخافك فينا ولا يرحمنا.