قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ ) . المائدة : 51 – 52

ينهى الله سبحانه في الآيتين عن حب الكفار المعادين ومصافاتهم ومناصرتهم ، ويخبر بأن ولاءهم الحقيقي وحبهم الفعلي فيما بينهم ولبعضهم البعض ولأبناء دينهم وعقيدتهم ، وما يكون منهم تجاه الآخرين – من مسلمين وغيرهم – إنما يكون على سبيل المجاملة لا حقيقة له ولا واقع ، ويعتبر من يفعل ذلك من المؤمنين ، متحدا معهم في الدين والفكر ومنتظما في سلك عقيدتهم وملتهم . وهذا زجر شديد للمؤمنين عن إظهار الموالاة لهم بأي شكل أو صورة.

ثم يبين موقف مرضى القلوب والعقول ، وهم المنافقون و ضعاف الإيمان ومن به رخاوة في اعتقاده ، الذين يسارعون إلى ولاء الكفرة المعتدين ويتسابقون في ذلك ، خشية أن تكون الدائرة والدولة لهم وينقلب الأمر لصالحهم ، فمرضى القلوب يخافون على معايشهم ومصالحهم ومراكزهم ويريدون أن يؤمنوا مستقبلهم ولا يفكرون بشيء آخر !!

والملفت هو: أنه جاء قوله تعالى (يسارعون فيهم) مستعملا حرف (في) ولم يقل (يسارعون إليهم) كما هو الحال في الكثير من آي الذكر الحكيم، كقول الحق (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) آل عمران : 133 . وغيرها. إذ الأصل في المسارعة أن يستعمل معها حرف ( إلى )، الذي يفيد الانتهاء إلى غاية مرادة والوصول إلى هدف محدد، فتقول مثلا (سارعت إلى الشرفة وما إلى ذلك ) وهو المعهود لغة مع المسارعة، ولا يستعمل حرف ( في ) الذي يفيد الظرفية والكون – الوجود – داخل الشيء فأقول مثلا: محمد في الغرفة، أي داخلها وهي محيطة به. فما السر وما الحكمة؟!

والسر في التعبير بـ ( في ) لا بـ ( إلى ): الدلالة على أن هؤلاء المنافقين ومرضى القلوب مستقرون في حب الكفرة المعادين ومودتهم ومصافاتهم، متوغلون في نصرتهم وولائهم، وما يقومون به فعلا إنما هو المسارعة من بعض مراتب الموالاة إلى بعضها الآخر، ويتسابقون وينشطون في احتلال أكثرها رضى لهم وأكبرها غنيمة لمصالحهم، ولو قال الحق (يسارعون إلى موالاتهم) لفهم أنهم لم يكونوا كذلك فيما سبق ولم يحصل من قبلهم ولاء ولا حب ولا مناصرة، وأنهم خارجون عنها متوجهون إليها ، كما الحال في قوله (سارعوا إلى مغفرة من ربكم)

أرأيتم دقة الرسالة التي أداها هذا الحرف وخطورتها ؟!!

أرأيتم إعجاز القرآن البلاغي و بيانه الذي لا يضاهى ؟!!

أليس في هذه اللفتة الجميلة عمقا في الدلالة ، يجعلنا نفهم الكثير من واقع أبناء جلدتنا اليوم وهم يتسابقون ويسارعون في موالاة أعداء الله وأعداء الأمة ؟!

فما نراه اليوم من سباق ومسارعة في نصرة ومآخاة ومودة اليهود والنصارى المعادين، – وعلى حساب المسلمين وقضاياهم – وتقديم التنازلات للوصول إلى أعلى الرتب في حبهم ، بغية المحافظة على المراكز والمصالح والعلاقات، وخشية أن تكون الصولة والجولة لهم، إنما يعبر عن مدى تأصل النفاق في القلوب، وتجذر المرض والضعف في نفوس الكثير من أبناء الأمة المتمسلمين !!

” وهكذا شأن المنافقين في كل زمان ومكان ، وهو الذي جعل كثيرا من وزراء بعض الدول منذ قرن أو قرنين ما بين روسي وإنكليزي وألماني في سياسته ، كل منهم يتخذ له يدا عند دولة قوية يلجأ إليها إذا أصابته دائرة ، حتى تغلغل نفوذ هذه الدول في أحشاء هذه الدولة ، فأضعفن استقلالها في بلادها ، ويخشى ما هو أكبر من ذلك ، من خطر نفوذهن فيها، وحتى صار بعض رجالها الصادقين لها يرون أنفسهم مضطرين إلى الاستعانة بنفوذ بعض هذه الدول على بعض.

وأما الذين استعمر الأجانب بلادهم بأي صورة من صور الاستعمار، وأي اسم من أسمائه، فأمر منافقيهم أظهر، يتقربون إلى الأجانب بما يضر أمتهم، حتى فيما لم يكلفوهم إياه، ويسمون هذا تأمينا لمستقبلهم، واحتياطا لمعيشتهم، ولو التزموا الصدق في أمرهم كله، فلم يلقوا أمتهم بوجه والأجانب بوجه لكان خيرا لهم وأقرب إلى الجمع بين مصلحة البلاد ومداراة الأجانب، ولكنه النفاق يخدع صاحبه بما يظن صاحبه أنه يخدع به غيره ويسلك سبيل الحزم لنفسه، وهو الذي يحمل بعض المنافقين الخائنين على نهب مال أمتهم ودولتهم، وإيداعه في مصارف أوربة لأجل التمتع به، إذا دارت الدائرة على دولتهم.” تفسير المنار. محمد رشيد رضا.

جاء في سبب نزول الآيات: أنه قدم عبادة بن الصامت من الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية موالي .فزلت الآيات. تفسير ابن كثير